المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : " الغروب " قصة لفيصل الزوايدي ( تونس )


فيصل الزوايدي
10/05/2008, 05:07 PM
الغـــروب ..

أَنا مَن هَدَّه الشوقُ إليَّ ، و أخذه الـهمُّ بعيدًا بعيدًا عَني .. و ألزَمَني زَمَني ما لا أُطيق ..
فَلَيْتَ أَنسى .. وكيفَ أنسى وذا فحيحُ ذِكرى أَطلَقَت سُـمومَها فـي دِمائي فَلا تُـجدي مَعَها الأمصالُ و إِنْ جَرَّبتُها ..و ذا هُم أَحِبَّةٌ صَدَقوا ولَكِن رَحَلوا ، بِالـمَوتِ اعتَذَروا ، و ما تُـجدي ، عِنْدَ الرحيلِ ، الـمعاذيرُ..أُفيقُ و تُفيقُ مَعي الذكرى موجِعَةً كالقَهرِ أَو كَالـمَوتِ نَفسِهِ ، أَحسِرُ عَنـي لِـحافًا بَسيطًا كانَ ليُطرُدَ البردَ و الـخوفَ عنّي .. أسيرُ نَـحوَ الـمِرآةِ فلا أرى إلا وَجهَهُ بِفَيْضِ ابتِسامَتِهِ الغامِرَةِ و الشيبِ الذي جَلَّلَهُ وَقارًا .. كانت الشعراتُ البيضاءُ بَيارِقَ الرحيلِ يَومَ اِلتَمَعَت فـي رأسِهِ تُؤذِنُ بِوَداعٍ مَـحتومٍ .. أجابَنا لا أَدري جادًّا أَمْ عابِثًا يَوْمَ سَأَلْناهُ عَن ذَلِكَ اللونِ الـجديدِ : هِيَ الشمسُ لا تَـمَلُّ شُروقًا و غُروبًا .. كَم أَشرَقَت و كَم غَرُبَت .. أَنْتَزِعُني مِن أَمامِ الـمِرآةِ فَقَد وَمَضَ بَريقٌ فـي عَينيَّ .. أَسيرُ وَجِلا إلـى الـمغسَلِ فأَغسِلُ وَجهي عَجٍلا ، مُتَجَنِّبًا النظَرَ إلى الـمِرآةِ الـمُواجِهَةِ خِشيَةَ أَنْ أَجِدَهُ قبالتي لَكِن يَدي تَـجَمَّدَت على مِقبَضِ الـحَنَفِيَّةِ ، فَقَد كانَت يَدُهُ الـمَعروقَةُ هِيَ التي تُـحكِمُ إِغلاقَ الـمِقبَضَ بِـحِرصِهِ الشديدِ على الـماءِ ، أَقتَلِعُني بِعُنفٍ و أَتَـحَرَّكُ مُتَعَثِّرًا أو مُتَبَعثِرًا.. أُغادِرُ الـمَكانَ و أُسرِعُ إلى غُرفَتـي و لَكن يَبدو أَنَّني قَد تُـهتُ إِذْ وَجدتُني فِي غُرفَتِهِ هُوَ .. كانَت رائِحته الـمُمَيَّزَةُ ما تَزالُ عَطِرَةً في الـمَكانِ .. هذا مَضجَعُهُ و تِلكَ ثِيابُهُ وذاكَ مَكتَبُهُ .. ما زالَ دفتَرُهُ مَفتوحًا على الطاولةِ ،كما تركَهُ في تلك الليلةِ فَقَد كانَ يُسَجِّلُ كل يوم أحداثَ يَومِهِ.. ترددت في مسامعي شَكواه الدَّائمَةَ مِن الزمَنِ .. ما لـي مِنْ عَدُوٍّ غيره .. قالَ هذا لـي يومًا وقد كان يُرَدِّدُهُ دَوْمًا .. أَقرَأُ فـي الصفحةِ الـمفتوحةِ أَمامي :" إِنَّـما تقتُلُنا الـحَسرَةُ .. وما جَدوى أَنْ تُسجِّلَ هزيـمَتَكَ ؟" لا أَجرُؤُ على قولِ أي كلامٍ .. تَـمامًا مِثلَ ذلكَ اليومِ .. إِذَا يَهوي الأحبَّةُ إلى الترابِ فَما كَلامٌ يُسلّيني .. أُحاوِلُ الهربَ مِنَ الـحسرَةِ خِشيَةَ أَنْ يَـمضي الوقتُ ، لا أَبـحَثُ عَن ساعَةٍ و لا أحاولُ البَحثَ عَنها فانأ اعلم أنني لن أجد واحدة .. قَد كانَ يَكرَهُ الساعاتِ بُغضًا ، يَكرَهُ حَرَكَتها لا تَتَوَقَّفُ ولا تستَريحُ و لا تَعودُ مَرَّةً .. يَكرَهُ اِستِنـزافها الـمريرَ لِلعُمرِ .. تَزيدُ لِيَنقُصَ ، هَكذا تَقولُ الأحجِيَةُ .. هل اِعتَقَدْتَ يَومًا أَنْ تَكونَ حَياتُكَ أُحجِيَةً ساذجَةً يَرويها الصبيانُ بِتَفَاخُرٍ ؟؟؟
أُحاوِلُ الفكاكَ مِن هذه الـمتاهةِ فَأُغادِرُ الـمكانَ نَـحوَ آخر .. إِذَا كانَ الزمانُ يَأْبـى الثبات فالأماكِنُ تَأبـى الـحَرَكَةَ .. أَسيرُ نَـحوَ غرفةِ نَومي مـرةً أخرى و أَنا أَتَوقَّعُ أَن أَجِدَها فـي مَكانِـها ، لا أَدري كَيفَ وَجدتُ نفسي في غُرفَةِ الـجلوسِ أُجيلُ البَصَرَ في أَشيائِها الـمُبَعثَرَةِ كأَحاسيسي ،الـمُشوَّشَةِ كَأََفكاري .. على صَدرِ الـحائطِ لَوحةٌ كبيرةٌ مَارَسَ الزمنُ نزواتِهِ العجيبةَ على إِطارِها الـمُذَهَّبِ فَأَحالَهُ باهِتًا .. كانتِ اللوحةُ صورةَ الفَقيدِ .. الـجاذبيةُ عنيفةٌ اِقتادَتْنـي إلـى تَأَمُّلِها بِشَغَفٍ كأنـي لا أَعرِفُ صاحبَها ..
أَقِفُ أمامَ صورَتِهِ و لَكِنّـي أَنظُرُ إليه بِإِشفاقٍ وَ حَسرَةٍ كَأَنـي أَعرِفُهُ .. أَتَأَمَّلُ عَيْنَيْهِ العَميقَتَيْنِ بِتِلكَ النظرَةِ الغائِمَةِ ... أَنظُر في الصورَةِ طَويلا و أَرحَلُ بَعيدًا بَعيدًا عَنّـي، إذ أَنسى العالـمَ مِن حَولـي و أَنسى كثيرًا مـما ظَنَنْتُ أَنـي لا أَنساه ..و لكننـي أعودُ بَغتَةً لأُفيقَ فَإذا بـالصورةِ لَـم تَكُن إلا صورَتـي أَنـا ..

ليلى العيسى
11/05/2008, 01:28 PM
لأوّلِ وهلةٍ
كِدتُ أنساقُ وراءَ موسيقى النّصّ،
بدايتهُ كانتْ لغةً شعريّة فخًا،!
يَا اللهْ
كيفَ كتبتَ يا فيصلْ و كيفَ أبحرتْ
و تركتنا غرقى؟؟!
و ما أجملَهُ مِنْ غرقٍ هنا،
النّهايةُ كـ جلِّ النهاياتِ الغير متوقعةٍ منكْ
مُدْهِشَـة ،!

لله درّكْ يا ابنَ الخضراءِ الشقيقة :)

ريما
11/05/2008, 03:10 PM
ياإلهي يافيصل ما أبدعك..
:coco:
تحترف النهايات العجيبة الـلا متوقعة
النهايات الحرة الرحبة المتواطئة مع الخيال الجميل!
وذلك مالايستطيعه إلا قاص يجيد حَبّكْ الحكاية ونسجها بخيوط من وهج
:coco:
القراءة لك متعة لا حد لـ أقصاها
لاتحرمنا من هكذا إبداع
دمت بخير

سودة الكنوي
11/05/2008, 05:42 PM
الزوايدي..
كالعادة في تحالف مع الجمال و الإبداع..
حِرَفِيٌّ ماهر يتقن صناعة القصة أيما إتقان..
بداية كانت تشبه دفق الخاطر و كأننا أمام خاطرة حالمة و ليس قصة
في نسق هاديء مظلل بالبوح..
ثمَّ تعلو النبرة شيئاً فشيئاً فنجد أننا فجأة قد صببنا في قالب قصصي
سردي يعرض أغلى ما حواه متحف الذاكرة و تراث الذكريات
و نصل إلى قمة الحدث عند المغسل (العقدة) و تلك اليد المعروقة التي يظهر
لنا مع خفوت النبرة و هبوت المؤشر أنها يد السارد هوهو نفسه..
فقد كان في محاولة جاهدة للهروب من ذاته بتفادي النظر إلى المرآة
و لكن أين يهرب من يديه و هي سنده و معاونه فلا بد أن يراه ليعيش
على أرض الواقع!
قادته خطاه المبرمجة إلى الدرب الذي تعودت على سلوكه بآلية..
درب غرفته، و تلك الصورة التي وضعتنا أمام النهاية غير المتوقعة..
ما أسرع ما تسرقنا الثواني و ما أسرع ما تدور بنا عجلة السنين
فتقلبنا من جال إلى حال دون أن نشعر بالتغيرات التي اعترتنا
مما يجعلنا ننكر ذاتنا و نجهلها و نحس أن الساكن الجديد في أرواحنا
إنما هو شخص غريب فقدناه منذ زمن ليس إلا..
فهل تنكر الشمس ذاتها و تجهل ملامحها عندما تلمح وجهها البرتقالي الكئيب
على صفحة الماء عند الغروب، و قد رأته مشرقاً و ضاءً
كالعسجد عند شروقها قبل ساعات..؟؟؟
تساؤل!

يقول الشاعر:

و جربتُ ما ذا العيش إلا تعلةٌ
................و ما الدهر إلا منجنونٌ يقلّبُ
و ما اليوم إلا مثل أمس الذي مضى
.............. و مثل غدِ الجائي، و كلٌّ سيذهبُ

فيصل الزوايدي تحية بعدد ذرات النسيم المنعش في جبال تونس الخضراء

أحمد العراقي
11/05/2008, 07:20 PM
يالهذا الرحيل الذي يأبى مفارقتنا!!.. وهذا التصدع بعده يحيلنا الى اشلاء مبعثرة..
صعب ان نبدأ من جديد .. متوالية الفراق ستتجدد .. لذلك دعونا نتوب....

فيصل لقلمك كل الحب.. :rose:

مياسم
13/05/2008, 12:41 PM
..
..
وَ كأنّ الغُروبَ رَسمٌ حَيٌّ للأفُولِ .. أوْ للنّهايَة .. !
كنتُ أمشِي بِ بطءٍ اتّجاهَ الجنُوبِ .. أُعدُّ المَوتَ عدّاً في كلِّ سَطرٍ ..
تُخفقُ حوَاسّي في إيجادِ معنىً آخر للغُروبْ !
هذهِ يا فَيصَلْ .. كائنَاتُ المَوتِ التي لا تُفارقنا مُنذ التقَاطِهِم الأخِيرْ !
تصْحُو معنَا سَاعةَ الصَّحوْ .. وَ تَنامُ أيّانَ موْتَتِنا الأولىْ !
مُدهِشْ يا فَيصَلْ .. كما اعتدنَاكَ دائماً .. :coco:

فيصل الزوايدي
24/05/2008, 12:40 AM
لأوّلِ وهلةٍ
كِدتُ أنساقُ وراءَ موسيقى النّصّ،
بدايتهُ كانتْ لغةً شعريّة فخًا،!
يَا اللهْ
كيفَ كتبتَ يا فيصلْ و كيفَ أبحرتْ
و تركتنا غرقى؟؟!
و ما أجملَهُ مِنْ غرقٍ هنا،
النّهايةُ كـ جلِّ النهاياتِ الغير متوقعةٍ منكْ
مُدْهِشَـة ،!

لله درّكْ يا ابنَ الخضراءِ الشقيقة :)

يا ليلى .. هل تدركين حيرتي الآن في اختيار كلمات الرد المناسبة ؟
سعيد انا بقراءتك و تفاعلك الحميمي
دمت في خير

فيصل الزوايدي
24/05/2008, 12:51 AM
ياإلهي يافيصل ما أبدعك..
:coco:
تحترف النهايات العجيبة الـلا متوقعة
النهايات الحرة الرحبة المتواطئة مع الخيال الجميل!
وذلك مالايستطيعه إلا قاص يجيد حَبّكْ الحكاية ونسجها بخيوط من وهج
:coco:
القراءة لك متعة لا حد لـ أقصاها
لاتحرمنا من هكذا إبداع
دمت بخير

أخت ريما اعتز برأيك و أسعد بمتابعتك و أشقى بثقتك ..
دمت في كل الخير
مودتي

فيصل الزوايدي
24/05/2008, 12:54 AM
الزوايدي..
كالعادة في تحالف مع الجمال و الإبداع..
حِرَفِيٌّ ماهر يتقن صناعة القصة أيما إتقان..
بداية كانت تشبه دفق الخاطر و كأننا أمام خاطرة حالمة و ليس قصة
في نسق هاديء مظلل بالبوح..
ثمَّ تعلو النبرة شيئاً فشيئاً فنجد أننا فجأة قد صببنا في قالب قصصي
سردي يعرض أغلى ما حواه متحف الذاكرة و تراث الذكريات
و نصل إلى قمة الحدث عند المغسل (العقدة) و تلك اليد المعروقة التي يظهر
لنا مع خفوت النبرة و هبوت المؤشر أنها يد السارد هوهو نفسه..
فقد كان في محاولة جاهدة للهروب من ذاته بتفادي النظر إلى المرآة
و لكن أين يهرب من يديه و هي سنده و معاونه فلا بد أن يراه ليعيش
على أرض الواقع!
قادته خطاه المبرمجة إلى الدرب الذي تعودت على سلوكه بآلية..
درب غرفته، و تلك الصورة التي وضعتنا أمام النهاية غير المتوقعة..
ما أسرع ما تسرقنا الثواني و ما أسرع ما تدور بنا عجلة السنين
فتقلبنا من جال إلى حال دون أن نشعر بالتغيرات التي اعترتنا
مما يجعلنا ننكر ذاتنا و نجهلها و نحس أن الساكن الجديد في أرواحنا
إنما هو شخص غريب فقدناه منذ زمن ليس إلا..
فهل تنكر الشمس ذاتها و تجهل ملامحها عندما تلمح وجهها البرتقالي الكئيب
على صفحة الماء عند الغروب، و قد رأته مشرقاً و ضاءً
كالعسجد عند شروقها قبل ساعات..؟؟؟
تساؤل!

يقول الشاعر:

و جربتُ ما ذا العيش إلا تعلةٌ
................و ما الدهر إلا منجنونٌ يقلّبُ
و ما اليوم إلا مثل أمس الذي مضى
.............. و مثل غدِ الجائي، و كلٌّ سيذهبُ

فيصل الزوايدي تحية بعدد ذرات النسيم المنعش في جبال تونس الخضراء

أخت سوده .. تعلمين أنني اعتز برأيك دوما و انتظره فشكرا لاسعاد النص وصاحبه بقراءتك
دمت في كل الخير
مودتي الدائمة

فيصل الزوايدي
24/05/2008, 12:57 AM
يالهذا الرحيل الذي يأبى مفارقتنا!!.. وهذا التصدع بعده يحيلنا الى اشلاء مبعثرة..
صعب ان نبدأ من جديد .. متوالية الفراق ستتجدد .. لذلك دعونا نتوب....

فيصل لقلمك كل الحب.. :rose:

أخي احمد .. عندما يكون الرحيل قسريا ستكون آلامه أشد و احدّ ..
أسعدني رأيك في النص
دمت في خير

فيصل الزوايدي
24/05/2008, 01:00 AM
..
..
وَ كأنّ الغُروبَ رَسمٌ حَيٌّ للأفُولِ .. أوْ للنّهايَة .. !
كنتُ أمشِي بِ بطءٍ اتّجاهَ الجنُوبِ .. أُعدُّ المَوتَ عدّاً في كلِّ سَطرٍ ..
تُخفقُ حوَاسّي في إيجادِ معنىً آخر للغُروبْ !
هذهِ يا فَيصَلْ .. كائنَاتُ المَوتِ التي لا تُفارقنا مُنذ التقَاطِهِم الأخِيرْ !
تصْحُو معنَا سَاعةَ الصَّحوْ .. وَ تَنامُ أيّانَ موْتَتِنا الأولىْ !
مُدهِشْ يا فَيصَلْ .. كما اعتدنَاكَ دائماً .. :coco:



أخت مياسم .. أعتز برأيك و احترمه كثيرا فشكرا للتفاعل الراقي و للدعم العفوي ..
دمت في خير
مودتي

فتحية الشبلي
31/05/2008, 02:51 PM
القاص الرائع / فيصل الزوايــــــــــدي

نــــــــص قصصي رائع جـــــــــداً

تتــــــــضح فيه جلــــياً براعة نساج ماهــر

نسج ببراعـــــــــــة تحفــــــةً غنية

بمفردات لغوية بارعـــة الجمال تنم عن حرفيـــــةً

عاليــــــــــة الجودة


ننتظر المــــــــزيد من المتعة والإمـتاع من أبن تونــس الخضراء


لك منــــــــــــــــــي كل الود والتقدير

فيصل الزوايدي
04/06/2008, 12:20 AM
القاص الرائع / فيصل الزوايــــــــــدي

نــــــــص قصصي رائع جـــــــــداً

تتــــــــضح فيه جلــــياً براعة نساج ماهــر

نسج ببراعـــــــــــة تحفــــــةً غنية

بمفردات لغوية بارعـــة الجمال تنم عن حرفيـــــةً

عاليــــــــــة الجودة


ننتظر المــــــــزيد من المتعة والإمـتاع من أبن تونــس الخضراء


لك منــــــــــــــــــي كل الود والتقدير

أخت فتحية اعتز برأيك و بدعمك كثيرا فشكرا لك و اعدك بالمزيد ان شاء الله
دمت في خير
مع الود