عبدالجواد خفاجي
20/05/2008, 08:48 PM
النقد وأممية العرب
عبدالجواد خفاجى
ربما لن نختلف أن النقد ظاهرة حضارية، وربما لهذا ولأن الحضارة العربية ـ التي من المفترض أن يزدهر النقد في ظلها ـ في انحدار بالغ الحرج كان لابد أن يكون الاستنتاج المنطقي أن النقد العربي في انحدار أيضاً ، ليس لأننا ـ كما يزعم البعض ـ متشائمون نقول هذا ، بل الحقيقة لأننا واقعيون أكثر من غيرنا نردد مع حشرجات الأنا لحظة احتضارها: وا عروبتاه ، وربما لأن أحداً لا يجيب ، عاودنا الندبة بصيغ أخرى تتساءل : هل ثمة أحد بالفعل معني بالإجابة ؟ هل ثمة أمة عربية بالفعل ؟ ربما لن أستعجل الاعتراض على مشروعية السؤال: هل بلغ النقد الأدبي العربي اليوم المكانة اللائقة به ؟ لكنما الاعتراض ـ بداية ـ على الزعم بأن ثمة نقد عربي يمكن أن يبلغ أو لا يبلغ ، وعلى التفاؤل الذي يكتنف السؤال ، الذي لم يعد يستوعب أنه نقد يسير في سياق اللحظة الحرجة، ووفق اشتراطاتها ، ووفق ما يرسمه لنا الآخرون ، وربما وفق ما تفننه النخبة السلطوية في الوسط الثقافي من نفي لكل ما هو عربي ، أو إسلامي ، أو شعبي، أو جماهيري .. ربما قد يكون التساؤل الأوجه : إلى أي حد نحن ملفقون بين المناهج ، ومزوِّرون لشخصيتنا ، بما يتفق مع التوجهات الرسمية السلطوية .
وربما إلى أي حد نحن منقسمون بين التيارات ومذاهب وفرق ونحل .. قد لا أعني الاختلاف الطبيعي في إطار التواجد الطبيعي الذي يؤطره السياق الحضاري العربي ، وإنما أعني السياق غير الطبيعي عندما نتصارع على ما لدي الغير من خصوصيات نزعم ملكيتها ، أو حتى إمكانية أن تكون ملكنا.
من الطبيعي أن تتكامل الحضارات أو تتصارع ، ومن الطبيعي أن تتداخل المعرفة أو تتكامل ، ومن الطبيعي أن السياق المعرفي الإنساني منفتح على مطلق المكان، ومطلق الزمان ، لكن الذي ليس طبيعياً ألا تكون فاعلا في العصر بغير فعالية التبعية، وألا تكون متواجدا إلا لتباهي بمثل هذه التبعية، ومن العيب أن تكون تبعيتك تلفيقية ادعائية دعائية ، ومن العيب أن تزعم أنك ـ رغم هذا ـ موجود هاهنا في العصر ، وأنك مالك فعلا لشيء .
والإشكالية ليست في النقد في حد كونه نشاطاً عقلياً معرفيا له خصوصيته، ولكن في كون الواقع لم يعد سياقاً عربياً أمام النقد ، هذا إذا أخذنا في الاعتبار أن كلمة الواقع تشمل التاريخ والإنسان والأفكار الإنسانية فيما يتجسد أمام الرائي أو الراصد أو المعايش للحظة تاريخية ما . ليكن سؤالنا الأول إذن : هل في واقعنا ما يؤكد عروبتنا ؟ هل نحن بالفعل أمة عربية ، هل نحن بالفعل أبناء ذلك التاريخ ؟ هل ننتمي فعلا إليه؟ هل واقعنا يؤكد هذا ؟ وقد تكون الإجابة صادمة .. ولما لا ، ما دامت الصدمة مطلوبة ؟!.
أرى أن السؤال : ـ هل بلغ النقد الأدبي العربي اليوم المكانة اللائقة به ؟ سؤال كبير إلى حد ما ، ومثير للعديد من القضايا ،بقدر ما أنه مثير للشجون .. ليس لأنه يضعنا أمام راهن مبدد ، وحضارة عربية مقهورة متقهقرة ، وليس لأنه يضعنا إلى حد ما أمام مسئولية المواجهة ، واشتراطاتها ، ولكن لأنه يفترض مبدئيًا ما ليس قائمًا .
ربما لو سُئلتُ عن خصوصية الأمة العربية بصفتي واحدًا من جيل ثورة يوليو ، وبصفتي مخلصًا لتراثي العربي والإسلامي لأجبتك خضوعًا لسطوة الفكر العروبي القومي الذي تربينا عليه : نعم .. هناك خصوصية مصدرها الهوية الواحدة التي تحدد ملامحها اللغة والدين ، والعادات والتقاليد ، والمصير المشترك ، وأكون بذلك قد أجبت مرتكزًا على خصوصية الثقافة كعنصر أساسي ومكون رئيس في حضارة أي أمة .. وأكون بذلك أيضًا خاضعًا للشعار الذي ظل يخفق فوق رؤوسنا لفترات طويلة .
بيد أن الأمر ليس خضوعًا للشعار الآن .. نحن في محك وجودي وصراع مصيري يستوجب علينا إعادة استقراء الواقع والتاريخ .
والأمر بداية خضوعًا لنقاش الخصوصية ، والأولى هو أن نبدأ النقاش حول الأممية .. هل نحن بالفعل أمة واحدة ؟
الأمة في اللغة معناها الطريقة والدين .. يقال فلان لا أمة له ، أي لا دين ولا نحلة له ، وقوله تعالى : " كنتم خير أمة " يقول الأخفش : يريد أهل أمة ، أي خير أهل دين . وأمة كل نبي مَن أُرسل إليهم ، سواء من آمن به ومن كفر ، وكل جيل من الناس أمة على حدة ، والأمة الجيل ، والجنس من كل شيء ,وكل جنس من الحيوان أمة . والأمة هي الإمام : ومنها قوله تعالى : إن إبراهيم كان أمة قانتًا لله " قال أبو عبيدة أي إمامًا وعلى رأى آخر : الأمة هو الرجل الذي لا مثيل له ، وأصل هذا الباب كله "أمم" بمعنى قصد : يقال أممت إليه أي قصدته . فمعنى الأمة في الدين أي مقصدهم مقصد واحد ، ومعنى الأمة في الرجل : المنفرد الذي لا نظير له، أي أن قصده منفرد عن قصد سائر الناس .
هذه هي معاني الأمة .. فبأي شيء منها نحن أمة ؟ هل هي أممية الدين ، أم الجنس، أم القصد الواحد .
الحقيقة أن أممية الدين بحاجة إلى نقاش واسع ، فمحمد عليه الصلاة والسلام أرسل للناس كافة، وأمته بهذا المعنى هي كافة الناس من آمن به ومن كفر، هو ليس نبي العرب وإن كان جنسه عربياً .
أما لو قصدنا أممية من أسلموا ، فسيظل السؤال : إسلام من نقصد ؟ .. الشيعة ، أم السنة ، أم الأشاعرة ، أم المتصوفة ، أم ......إلخ .. عرف التاريخ الإسلامي مللاً ونحلاً ، وعرقيات ، وقبائل ، وبطونًا ، وأفخاذًا ، وطوائف ، وفرقًاً ، وجماعات ، ومذاهب ، وتكتلات دينية متعددة كلها إسلامية ، وكلها تقضى على فكرة أممية الدين .. وفى رأيي أنها أممية كانت منذ أن أسس محمد عليه الصلاة والسلام دولته بعد الهجرة في يثرب وحتى اللحظة الفارقة التي جلس فيها المهاجرون والأنصار في سقيفة بنى ساعدة؛ لتداول أمر الخلافة ، وحيث انتهى الاجتماع ، ولم يُلتفت إلى مطلب الأنصار المتواضع : " منكم الأمير ، ومنا الوزير" ، هو مطلب لو اُستجيب له لكان وجه التاريخ الإسلامي كله قد تغير، ولكن شاء التعصب للقرشية أن يرتد التاريخ بالعرب مرة أخرى إلى قبليتهم الأولى، وإن تُنسف فكرة المؤاخاة التي أسسها الرسول لتوه بين المهاجرين والأنصار عند أول محك لتداول السلطة. أما إذا شئنا التوسع أكثر فإن اللحظة الفارقة الأخرى كانت بعد مقتل عثمان مباشرة، وإن شئنا التوسع أكثر فهي اللحظة التي استتب فيها أمر الحكم لبنى أمية.
هي لحظات ثلاث فارقة تجلى فيها موقف العرب من الدين والسياسة معًا ، وفى كلٍّ كان الدين خلفية تجرى أمامها الأحداث السياسية وليس العكس ، ولم تكن الأممية الدينية هي الأساس بقدر ما كانت القبلية هي الأساس . إلى أن انفرط عقد أممية الدين كلية في العصر الأموي بظهور المذاهب السياسية التي تستند إلى الدين كخلفية سياسية في الوقت الذي تنظر فيه إلى مقعد الحكم أمامها ، غير ما ظهر في هذا العصر من فرق إسلامية فلسفية كانت معنية بالإخلاص لفلسفتها ، أكثر من إخلاصها لفكرة الأممية الدينية .
أما عن أممية الجنس فبالنظر إلى الخارطة الموسومة بالعربية من المحيط إلى الخليج فهي لم تكن لا قبل الإسلام ، ولا بعده خالصة للجنس العربي ، بل تنازعت البقاء فوقها عشرات الأجناس، أما عن أممية القصد الواحد فتلك هي الفرية التي يكذبها التاريخ والواقع ، فلم يكن القصد واحدًا للعرب إلا في الفترة من فتح مكة ، وحتى وفاة النبي عليه الصلاة والسلام ، أما قبل أو بعد فكان قصد القبيلة هو الواحد .. يكفى لأن ندرك هذا أن ننظر إلى عصور بكاملها سميت باسم القبيلة : " بنى أمية " " بنى العباس " وغيرهم ، أما نهاية الدولة الإسلامية في الأندلس فخير دليل على اكتمال الدائرة التي بدأت بفرقاء قبليين وانتهت بهم ( ملوك الطوائف ) . . هل اختلف المشهد منذ ذلك التاريخ أم تغير ؟ .. هذا هو السؤال . . الذي أعيه أن ثمة أممية سياسية تحققت في التاريخ تسيدتها فرق سياسية قبلية وطائفية تدين بالإسلام وهذه الأممية كانت بعد صدر الإسلام تقوم على مبدأ اغتصاب الحكم ،ولم تكن خالصة للعرب إلا في العصور الثلاثة الأولى للإسلام وإن كان للفرس سطوتهم وكلمتهم السياسية في العصر العباسي ، بعد ذلك سقطت هذه الأممية من العرب ، ولم تعد حتى الآن .
.
( يتـبع )
عبدالجواد خفاجى
ربما لن نختلف أن النقد ظاهرة حضارية، وربما لهذا ولأن الحضارة العربية ـ التي من المفترض أن يزدهر النقد في ظلها ـ في انحدار بالغ الحرج كان لابد أن يكون الاستنتاج المنطقي أن النقد العربي في انحدار أيضاً ، ليس لأننا ـ كما يزعم البعض ـ متشائمون نقول هذا ، بل الحقيقة لأننا واقعيون أكثر من غيرنا نردد مع حشرجات الأنا لحظة احتضارها: وا عروبتاه ، وربما لأن أحداً لا يجيب ، عاودنا الندبة بصيغ أخرى تتساءل : هل ثمة أحد بالفعل معني بالإجابة ؟ هل ثمة أمة عربية بالفعل ؟ ربما لن أستعجل الاعتراض على مشروعية السؤال: هل بلغ النقد الأدبي العربي اليوم المكانة اللائقة به ؟ لكنما الاعتراض ـ بداية ـ على الزعم بأن ثمة نقد عربي يمكن أن يبلغ أو لا يبلغ ، وعلى التفاؤل الذي يكتنف السؤال ، الذي لم يعد يستوعب أنه نقد يسير في سياق اللحظة الحرجة، ووفق اشتراطاتها ، ووفق ما يرسمه لنا الآخرون ، وربما وفق ما تفننه النخبة السلطوية في الوسط الثقافي من نفي لكل ما هو عربي ، أو إسلامي ، أو شعبي، أو جماهيري .. ربما قد يكون التساؤل الأوجه : إلى أي حد نحن ملفقون بين المناهج ، ومزوِّرون لشخصيتنا ، بما يتفق مع التوجهات الرسمية السلطوية .
وربما إلى أي حد نحن منقسمون بين التيارات ومذاهب وفرق ونحل .. قد لا أعني الاختلاف الطبيعي في إطار التواجد الطبيعي الذي يؤطره السياق الحضاري العربي ، وإنما أعني السياق غير الطبيعي عندما نتصارع على ما لدي الغير من خصوصيات نزعم ملكيتها ، أو حتى إمكانية أن تكون ملكنا.
من الطبيعي أن تتكامل الحضارات أو تتصارع ، ومن الطبيعي أن تتداخل المعرفة أو تتكامل ، ومن الطبيعي أن السياق المعرفي الإنساني منفتح على مطلق المكان، ومطلق الزمان ، لكن الذي ليس طبيعياً ألا تكون فاعلا في العصر بغير فعالية التبعية، وألا تكون متواجدا إلا لتباهي بمثل هذه التبعية، ومن العيب أن تكون تبعيتك تلفيقية ادعائية دعائية ، ومن العيب أن تزعم أنك ـ رغم هذا ـ موجود هاهنا في العصر ، وأنك مالك فعلا لشيء .
والإشكالية ليست في النقد في حد كونه نشاطاً عقلياً معرفيا له خصوصيته، ولكن في كون الواقع لم يعد سياقاً عربياً أمام النقد ، هذا إذا أخذنا في الاعتبار أن كلمة الواقع تشمل التاريخ والإنسان والأفكار الإنسانية فيما يتجسد أمام الرائي أو الراصد أو المعايش للحظة تاريخية ما . ليكن سؤالنا الأول إذن : هل في واقعنا ما يؤكد عروبتنا ؟ هل نحن بالفعل أمة عربية ، هل نحن بالفعل أبناء ذلك التاريخ ؟ هل ننتمي فعلا إليه؟ هل واقعنا يؤكد هذا ؟ وقد تكون الإجابة صادمة .. ولما لا ، ما دامت الصدمة مطلوبة ؟!.
أرى أن السؤال : ـ هل بلغ النقد الأدبي العربي اليوم المكانة اللائقة به ؟ سؤال كبير إلى حد ما ، ومثير للعديد من القضايا ،بقدر ما أنه مثير للشجون .. ليس لأنه يضعنا أمام راهن مبدد ، وحضارة عربية مقهورة متقهقرة ، وليس لأنه يضعنا إلى حد ما أمام مسئولية المواجهة ، واشتراطاتها ، ولكن لأنه يفترض مبدئيًا ما ليس قائمًا .
ربما لو سُئلتُ عن خصوصية الأمة العربية بصفتي واحدًا من جيل ثورة يوليو ، وبصفتي مخلصًا لتراثي العربي والإسلامي لأجبتك خضوعًا لسطوة الفكر العروبي القومي الذي تربينا عليه : نعم .. هناك خصوصية مصدرها الهوية الواحدة التي تحدد ملامحها اللغة والدين ، والعادات والتقاليد ، والمصير المشترك ، وأكون بذلك قد أجبت مرتكزًا على خصوصية الثقافة كعنصر أساسي ومكون رئيس في حضارة أي أمة .. وأكون بذلك أيضًا خاضعًا للشعار الذي ظل يخفق فوق رؤوسنا لفترات طويلة .
بيد أن الأمر ليس خضوعًا للشعار الآن .. نحن في محك وجودي وصراع مصيري يستوجب علينا إعادة استقراء الواقع والتاريخ .
والأمر بداية خضوعًا لنقاش الخصوصية ، والأولى هو أن نبدأ النقاش حول الأممية .. هل نحن بالفعل أمة واحدة ؟
الأمة في اللغة معناها الطريقة والدين .. يقال فلان لا أمة له ، أي لا دين ولا نحلة له ، وقوله تعالى : " كنتم خير أمة " يقول الأخفش : يريد أهل أمة ، أي خير أهل دين . وأمة كل نبي مَن أُرسل إليهم ، سواء من آمن به ومن كفر ، وكل جيل من الناس أمة على حدة ، والأمة الجيل ، والجنس من كل شيء ,وكل جنس من الحيوان أمة . والأمة هي الإمام : ومنها قوله تعالى : إن إبراهيم كان أمة قانتًا لله " قال أبو عبيدة أي إمامًا وعلى رأى آخر : الأمة هو الرجل الذي لا مثيل له ، وأصل هذا الباب كله "أمم" بمعنى قصد : يقال أممت إليه أي قصدته . فمعنى الأمة في الدين أي مقصدهم مقصد واحد ، ومعنى الأمة في الرجل : المنفرد الذي لا نظير له، أي أن قصده منفرد عن قصد سائر الناس .
هذه هي معاني الأمة .. فبأي شيء منها نحن أمة ؟ هل هي أممية الدين ، أم الجنس، أم القصد الواحد .
الحقيقة أن أممية الدين بحاجة إلى نقاش واسع ، فمحمد عليه الصلاة والسلام أرسل للناس كافة، وأمته بهذا المعنى هي كافة الناس من آمن به ومن كفر، هو ليس نبي العرب وإن كان جنسه عربياً .
أما لو قصدنا أممية من أسلموا ، فسيظل السؤال : إسلام من نقصد ؟ .. الشيعة ، أم السنة ، أم الأشاعرة ، أم المتصوفة ، أم ......إلخ .. عرف التاريخ الإسلامي مللاً ونحلاً ، وعرقيات ، وقبائل ، وبطونًا ، وأفخاذًا ، وطوائف ، وفرقًاً ، وجماعات ، ومذاهب ، وتكتلات دينية متعددة كلها إسلامية ، وكلها تقضى على فكرة أممية الدين .. وفى رأيي أنها أممية كانت منذ أن أسس محمد عليه الصلاة والسلام دولته بعد الهجرة في يثرب وحتى اللحظة الفارقة التي جلس فيها المهاجرون والأنصار في سقيفة بنى ساعدة؛ لتداول أمر الخلافة ، وحيث انتهى الاجتماع ، ولم يُلتفت إلى مطلب الأنصار المتواضع : " منكم الأمير ، ومنا الوزير" ، هو مطلب لو اُستجيب له لكان وجه التاريخ الإسلامي كله قد تغير، ولكن شاء التعصب للقرشية أن يرتد التاريخ بالعرب مرة أخرى إلى قبليتهم الأولى، وإن تُنسف فكرة المؤاخاة التي أسسها الرسول لتوه بين المهاجرين والأنصار عند أول محك لتداول السلطة. أما إذا شئنا التوسع أكثر فإن اللحظة الفارقة الأخرى كانت بعد مقتل عثمان مباشرة، وإن شئنا التوسع أكثر فهي اللحظة التي استتب فيها أمر الحكم لبنى أمية.
هي لحظات ثلاث فارقة تجلى فيها موقف العرب من الدين والسياسة معًا ، وفى كلٍّ كان الدين خلفية تجرى أمامها الأحداث السياسية وليس العكس ، ولم تكن الأممية الدينية هي الأساس بقدر ما كانت القبلية هي الأساس . إلى أن انفرط عقد أممية الدين كلية في العصر الأموي بظهور المذاهب السياسية التي تستند إلى الدين كخلفية سياسية في الوقت الذي تنظر فيه إلى مقعد الحكم أمامها ، غير ما ظهر في هذا العصر من فرق إسلامية فلسفية كانت معنية بالإخلاص لفلسفتها ، أكثر من إخلاصها لفكرة الأممية الدينية .
أما عن أممية الجنس فبالنظر إلى الخارطة الموسومة بالعربية من المحيط إلى الخليج فهي لم تكن لا قبل الإسلام ، ولا بعده خالصة للجنس العربي ، بل تنازعت البقاء فوقها عشرات الأجناس، أما عن أممية القصد الواحد فتلك هي الفرية التي يكذبها التاريخ والواقع ، فلم يكن القصد واحدًا للعرب إلا في الفترة من فتح مكة ، وحتى وفاة النبي عليه الصلاة والسلام ، أما قبل أو بعد فكان قصد القبيلة هو الواحد .. يكفى لأن ندرك هذا أن ننظر إلى عصور بكاملها سميت باسم القبيلة : " بنى أمية " " بنى العباس " وغيرهم ، أما نهاية الدولة الإسلامية في الأندلس فخير دليل على اكتمال الدائرة التي بدأت بفرقاء قبليين وانتهت بهم ( ملوك الطوائف ) . . هل اختلف المشهد منذ ذلك التاريخ أم تغير ؟ .. هذا هو السؤال . . الذي أعيه أن ثمة أممية سياسية تحققت في التاريخ تسيدتها فرق سياسية قبلية وطائفية تدين بالإسلام وهذه الأممية كانت بعد صدر الإسلام تقوم على مبدأ اغتصاب الحكم ،ولم تكن خالصة للعرب إلا في العصور الثلاثة الأولى للإسلام وإن كان للفرس سطوتهم وكلمتهم السياسية في العصر العباسي ، بعد ذلك سقطت هذه الأممية من العرب ، ولم تعد حتى الآن .
.
( يتـبع )