سليمان منذر الأسعد
25/05/2008, 02:51 PM
زكريا تامر.. كأنه يرسمنا حين يكتب
(المجلة) – (كاركتر) أيار/مايو 2008م
ساخر لا تعنيه قهقهة الجمهور ولا بكاؤهم حين يخرج ممثلوه عن النص المعدّ للمتفرج المثالي في مسرح يوشك على السقوط أمام جبروت العبارة التي تزدري تقاليد الحكاية ولا تحترم أعراف القصة، لأن المؤلف شاعر يكتب القصة بحبر القصيدة ويقول الشعر كما تحكى الملاحم.
هو ساخر يشق طريقه بين كومة من الخرائب كي يصل إلى فردوسه العامر بشهيّات القصص، فيكتب ملهاة لا تشبه الملهاة إلا في تطابق التسمية. فاختلاف الصوت يعطي ملهاته فرادة ترفعها عن مزالق التصنيف.. وكلما غار جرحه اتسعت ابتسامته واستحالت ملهاته بئراً مفتوحاً على بركان من الضحك والبكاء.
هو حداد يعيش في زمن الخشب.. يقف على أهبة الحنين أمام ورشته لينفخ في الكير سواراً لعاشق يستعد للغناء أو قلادة لصبية تنتظر ميعاد عرسها، لكنه لم يعتد أن يصنع بمطرقته أوسمة ونياشين زائفة.
ضاقت به دمشق/الحرائق أو اتسعت أحلامه عليها حتى استحال عليه رقع الفجوة بين رمادها وفضائه، فامتشق يراعه المهنّد ويمم شطر المنفى ليهرب بذاته من عالمٍ يعرج باتجاه الأمس إلى عالم يمشي مطمئناً نحو غد قريب، على أمل أن ينجز نصاً مكتمل الدلالة كي ينجو به من براثن التأويل المفرط في سذاجته، فنقاده مشغولون بحياكة الأثواب الجاهزة وهو لا يرتدي إلا العباءة المشرعة على الأسئلة والقميص المفتوح على أزرار البلاغة.
تامر مصاب بالمرض الذي نخشاه جميعاً: الوعي المفرط المترافق مع حساسية عالية تجاه القصة، وعلينا أن نتدرب جيداً قبل أن نجازف في استحضار قصصه من علياء سردها إلى حضيض فهمنا، فهو حين يختار أسهل الطرق للوصول إلى الذائقة وأشقها على المخيلة يشعر أنه مؤتمن على القصة دون أن يكون بالضرورة مكلَّفاً بصيانتها من سحر التجريب وبراعة التجديد، فهي تنسى ملامحها دائماً في مرآة لغته التي تنتشل الحدث اليومي البسيط من عاديته وتشهق به في اتجاه الرمز ليكون تأويله مفتوحاً على احتمالات كثيرة ونتيجة واحدة: أننا لم نجرب نشوة الوعي بعد.
لذلك كان على أبطاله أن يكونوا حيوانات، حتى يتخفف من مسؤولية تحميل البشر كلاماً أعمق من قدرتهم على تفسيره.. هي حيوانات تنطق وتمشي وتحكم وفق قانون يصوغه تامر على مقاس ثورته... فالحيوان أطوع في يده من إنسيٍّ قد يروق له في غمرة مكره أن يحشر قافية نشازاً في وسط الحكاية ليشوّه تفاصيل الحوار.
* * *
حاولتُ ذات صيف أن أظفر بحوار صحفي عاصف مع هذا النمر العصيّ على الترويض. اتصلت به في أكسفورد حيث يعيش، فرحّب مبدئياً بالفكرة على أن يقرأ الأسئلة، ثم سألني بحفاوة حين أخبرته باسمي عن سبب انقطاع والدي عن مزاولة مهنتهما المفضّلة: السخرية!.
أعددتُ أسئلة من الطراز المستفزّ كما يحلو للصحافيين أن ينهروا المبدع حتى ينطق بما لا ينوي! فأغضبته لهجتها وقال لي بلكنة دمشقية لم تغيرها مضارب أكسفورد ولا صقيع الإنجليز: (هاي أسئلة كلها "نطوطة"!) يعني تطاول.
لم أقصد بطبيعة الحال أن أتطاول على هامته. بل حرصتُ على دفعه إلى الحديث عن النقاط المثير في حياته وأدبه..
شرحتُ له مبرراتي واعتذرتُ، فاستجاب لإلحاحي على أن أغيـّر الأسئلة.. لكن الحوار لم يتم!
(المجلة) – (كاركتر) أيار/مايو 2008م
ساخر لا تعنيه قهقهة الجمهور ولا بكاؤهم حين يخرج ممثلوه عن النص المعدّ للمتفرج المثالي في مسرح يوشك على السقوط أمام جبروت العبارة التي تزدري تقاليد الحكاية ولا تحترم أعراف القصة، لأن المؤلف شاعر يكتب القصة بحبر القصيدة ويقول الشعر كما تحكى الملاحم.
هو ساخر يشق طريقه بين كومة من الخرائب كي يصل إلى فردوسه العامر بشهيّات القصص، فيكتب ملهاة لا تشبه الملهاة إلا في تطابق التسمية. فاختلاف الصوت يعطي ملهاته فرادة ترفعها عن مزالق التصنيف.. وكلما غار جرحه اتسعت ابتسامته واستحالت ملهاته بئراً مفتوحاً على بركان من الضحك والبكاء.
هو حداد يعيش في زمن الخشب.. يقف على أهبة الحنين أمام ورشته لينفخ في الكير سواراً لعاشق يستعد للغناء أو قلادة لصبية تنتظر ميعاد عرسها، لكنه لم يعتد أن يصنع بمطرقته أوسمة ونياشين زائفة.
ضاقت به دمشق/الحرائق أو اتسعت أحلامه عليها حتى استحال عليه رقع الفجوة بين رمادها وفضائه، فامتشق يراعه المهنّد ويمم شطر المنفى ليهرب بذاته من عالمٍ يعرج باتجاه الأمس إلى عالم يمشي مطمئناً نحو غد قريب، على أمل أن ينجز نصاً مكتمل الدلالة كي ينجو به من براثن التأويل المفرط في سذاجته، فنقاده مشغولون بحياكة الأثواب الجاهزة وهو لا يرتدي إلا العباءة المشرعة على الأسئلة والقميص المفتوح على أزرار البلاغة.
تامر مصاب بالمرض الذي نخشاه جميعاً: الوعي المفرط المترافق مع حساسية عالية تجاه القصة، وعلينا أن نتدرب جيداً قبل أن نجازف في استحضار قصصه من علياء سردها إلى حضيض فهمنا، فهو حين يختار أسهل الطرق للوصول إلى الذائقة وأشقها على المخيلة يشعر أنه مؤتمن على القصة دون أن يكون بالضرورة مكلَّفاً بصيانتها من سحر التجريب وبراعة التجديد، فهي تنسى ملامحها دائماً في مرآة لغته التي تنتشل الحدث اليومي البسيط من عاديته وتشهق به في اتجاه الرمز ليكون تأويله مفتوحاً على احتمالات كثيرة ونتيجة واحدة: أننا لم نجرب نشوة الوعي بعد.
لذلك كان على أبطاله أن يكونوا حيوانات، حتى يتخفف من مسؤولية تحميل البشر كلاماً أعمق من قدرتهم على تفسيره.. هي حيوانات تنطق وتمشي وتحكم وفق قانون يصوغه تامر على مقاس ثورته... فالحيوان أطوع في يده من إنسيٍّ قد يروق له في غمرة مكره أن يحشر قافية نشازاً في وسط الحكاية ليشوّه تفاصيل الحوار.
* * *
حاولتُ ذات صيف أن أظفر بحوار صحفي عاصف مع هذا النمر العصيّ على الترويض. اتصلت به في أكسفورد حيث يعيش، فرحّب مبدئياً بالفكرة على أن يقرأ الأسئلة، ثم سألني بحفاوة حين أخبرته باسمي عن سبب انقطاع والدي عن مزاولة مهنتهما المفضّلة: السخرية!.
أعددتُ أسئلة من الطراز المستفزّ كما يحلو للصحافيين أن ينهروا المبدع حتى ينطق بما لا ينوي! فأغضبته لهجتها وقال لي بلكنة دمشقية لم تغيرها مضارب أكسفورد ولا صقيع الإنجليز: (هاي أسئلة كلها "نطوطة"!) يعني تطاول.
لم أقصد بطبيعة الحال أن أتطاول على هامته. بل حرصتُ على دفعه إلى الحديث عن النقاط المثير في حياته وأدبه..
شرحتُ له مبرراتي واعتذرتُ، فاستجاب لإلحاحي على أن أغيـّر الأسئلة.. لكن الحوار لم يتم!