أحمد بدر
11/08/2008, 06:29 PM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته...
ذات يوم ~ حيث كنت أقرأ قصة قصيرة لصديقتي الرائعة الراقية إيناس الطاهر
كنت أتدرج فأتدحرج مع الحدث الذي صورت..
فأتصور أشياء لم تأتِ من الكاتب
قلت لها: لقد امتلكتني فكرة وأنا أقرأ لك .. علها بادرة لقصة..
قالت: لولا كتبها.. فكانت هذه..
شوكٌ و حرير
صباح يوم جديد.. لربيع أقبل بألق.. جاءت أنامله الناعمة لترسم حياة خالية من العناء بعد ترقُّبٍ وطول انتظار, أخيرًا.. رحل البرد وانقشع.. وذاب الصقيع واندفع جداولا تتسابق عدوا في ما بينها حدرا مِن على أكتاف ذالك الجبلٍ القريبٍ.. لتقتحم ترانيمها خُلوة الوادي وقدسيِّة صمته المهول كما لو أنها تهشِّم آنية فُـَخرتها انجمادات تلك الليالي الطويلة من شتاء قارسٍ عنيد.. فدبَت الحياة, وانتشت بالدّفء خضرة النبات, وأينعت الأغصان بالزّهرات, وارتوت مروجه من كأسٍ زجاجتها الجمال.. رشفت أخرى فترنحت ثملى بآتون الفناء.
بدت هذه الجُنَيْنَة, متزاحمة النبات – يلفّها شالٌ رقراقٌ حيك من لفيف زهرات زائنات وبأجناس مختلفة, يكاد لا يشبه بعضٌ بعضا حتى تلكم الأغصان تباينت بوريقاتها وتفاضلت لتحار الأنفس من أين تشاء لمسه ومن أي تقطف شمة.
تشابكت وتعانقت على خجل جم, فكانت كما الجدار الذي يشهق بتناسق فريد.. لَبَنَاته كقدود عذارى رُصفت برفق فنان.. ومنها تعرّت شرفات عاجية بيضاء تغري أنامل النظر لتلامسها شغفا وعشقا كما لو أنها كانت صدر كاعب غنجة تتمايس شوقا للعب فتنثر عبر الصباحات الواعدة عبيرها الأخّاذ والذي يرحل مع مختلف الاتجاهات.
كذالك: فلقد حضر الزمن بقوة.. سور دائري يحتضنها كذراعي فارس قوي, متمثلا بشجر السنديان والكافور العظيم المتراص والذي يوشوش حفيف أغصانه الآذان كما لو كان قائلا: صه واكتف بالنظر ودع عنك طنين الأفواه.
موشوما برموز وطلاسم هيرغلوفية حُفرت على متن جسده الأملس الصلد لتروي لنا حادثة وقعت فجمعت بدقائقها دقات قلبين غفيا على تراتيل قديس الغرام حيث لا عين تبصر ولا واش يسترق السمع.
منظر متكامل - متداخل - ممتزج - لا يشوبه النشاز– سجادة أبدعت خيالات حائكها فهي رواية تحاكي القرّاء وقصيدة تجتذب العشاق.. كل من شاهد تلك اللوحة الرائعة يسبّح الله في ملكوته ولم ينس ريشة ألجنائني وبصماته الجلية المعالم.
أما باقي الزهور – فما أشبه عمرها بها, فهو كما هيَ رقيق.. لا يمتلك نفـَس المطاولة ولا مسايرة الأيام, وُرِيْقاتها وكأنها خدود أطفال تنبض بالرِّقة - متشربة بالحمرة – تُبصَرُ خلالها أوردة دقيقة كما السواقي الرقيقة, تتمايل طربا على ساق نحيل واهن لا يكاد يعرف الثبات وإن كان بوجه أرق نسمة مرقت خلاله فداعبه, وجذر قنع مرغما بطبقة ظاهرة من التربة.. كزهرة ألستروميريا الجميلة بألوانها الأصفر والمشمشي والبرتقالي والأحمر والزهري والبنفسجي القاني والفاتح والأبيض الناصع والمائل للصفرة، وباقات شقائق النعمان التي هي بألوان طيف الشمس, وزهرة الأستر, وعصفور الجنة, والزنبق, والقرنفل, والأقحوان, والنرجس, والديلقنيوم, والفريسيا, والديزي, وزنبق الجلاديلياس, وزنبق الياقوت, والسوسن, وزنبق الإيساتك.
كل هذه المخلوقات لا تمتلك أن تعيش أكثر من عشرين يوم, كما هو حال هذه الأوركيدة البيضاء - البهية الطلعة - الفاتنة الرشاقة - الناصعة البياض - الرائقة المزاج - الرائعة الجمال.. تـَلاعبُ بها نسمات الصباح في كل الاتجاهات فما قاومتها بل استسلمت لها شغفا وترنَّحت لها طربا - بقوام أقرب ما يكون لقوام فاتنة عذراء فجريّة أللون - قُحِّيَّة الغريزة, انطلقت كما فرس مجنون عاث بالأماكن تخبطا يعجن الهواء بقوائمه الرشيقة - يثب هنا ويجري هناك, فهو لا يكاد يستقر على حال ولا يكاد ينتمي لمكان, هي ثملى بالشباب, نشوى بالجمال, عُنفى بغريزة جمحاء, وبجسد بكر ما دَبَتْ عليه قوائم نملة قط فكانت في أتم استجابتها للرغبات واضعف ما تكون عن مقاومة اللعب والحركات, أغمضت عينيها واستسلمت لهبوب النسائم, تلاعبها وتدللها حنان الأم لولدها الصغير, فكانت تنتظر هبيب نسمة عن يسار تؤرجحها نحو اليمين فتفاجئها النسمة عبر اليمين دفعا بها نحو اليسار, وحين ارتقبت أن تأتيها هذه المرة قبالة وجهها - غافلتها لتوكزها برفق من الخلف - وهي ما توقفت عن الضحك بقهقهات عالية النبرات كتلك التي يطلقنها بائعات الهوى ,لفتت أسماع كل أزهار الجُنينة - فكل شاركها فرحتها تلك عبر ابتسامات ارتسمت على محيَّاهنَّ
فما انفكت وهي تضفي على الجو مسحة من سعادة
بدت وكأنها زنبقة ماء - تقاذفتها أمواج شاطئ هادئة مرة تشهق بها وتارة تنخفض, أو أنها ريشة طاشت في فناءات ملؤها النور, هائمة بأثير من خيال, كراقصة باليه تحوم وتعوم على رؤوس أصابع قدميها تقفز برشاقة الغزلان عبر هذه الزنبقة لتلك وتلفُّ حول هذه القطرة لتلكَ التي انزلقت من أعالي غصن فاستقرت بنهاية آخر ورقة مدببة كما السكين - تتماوج بألوان طيف الشمس, فهي لا تكاد تستقر على لون معين - حيث تحركت العين تغير اللون.. ثم انسلّت فانسدلت للأسفل وتشظَّت كأنها مرآة هوت فتكسرت بجرس ساحر الرنّة .
قد تكون هذه الأوركيدة تعلم عن مدى قصر عمرها الذي وهبها الله - أو لا تكون تعلم - فهي تعيش بين سبع إلى أربعة عشر يوم - لذلك هي لا تضيِّعُ لحظة دون أن ترشف من ثناياها الرحيق, تعي جيدًا أنها خلقت من أجل أن توهب الأرض جمالا, وتكتسي من الأرض الألق,
بقيت على لعبها وهي تمرح بما جادت عليها الطبيعة من حركة وما سمح لها عودها الرقيق من انحناءات,
فإذا بلذعة طعنة - تقطع عليها نشوة اللعب وتنتزع من إحساسها الخيال الثمل - لتزرعها بـواقع وجود أليم.. فَزِعَ شعور الثمالة عنها فتدارى.. قطعت ضحكتها المجلجلة - بصرخة نَشِزَة أي
ما كادت لتستقر بعد رعشة ألم - حتى ذرفت دمعة انخرطت عبر متكها الدقيق متدحرجة نحو ورقة مخدوشة ليستقر بعضها بزعنفة ذالك الجرح الصغير, أمسكت الأوركيدة عن كل حركة وكلام وهي تمضغ ألمها الغليظ وتبصر وريقتها الصغيرة الحريرية وقد خُدشت, فراح يتدافع داخلها هاجس من ألمٍ ينغر بهوادة ومن ثم يتدرج تصعُّدا بالإلحاح - ليستفز من أعماقها الآهات ويزرعها بواقع المعاناة.
أعربت عن إحساس كئيب خيَّم فجأة على جوها المترف المكتظ باللهو وببراءتها المشهودة وبتلك العينين الضاحكتين.. حيث مكان ذالك الخدش كانت الأوركيدة تمعن النظر بشفاه أثقلتها الصدمة وهالها عنف الحدث.. وحميم بخَّر خيال الحميَّا فلقد سُلبت نشوتها على حين غرة.. جَمَّعت كل ما اسطاعت جمعة من رباطة جأش وتلفَّتت حيث اليمين وحيث الشمال تبحث عن مسبب لما هي فيه من ألم, فما فتئت حتى شاهدت نبتة غريبة ساكنة لم تلحظها من ذي قبل > صبار <
يجثم على ساق متين يشبه ورقة نبات عظيمة ولكنها ليست كما أوراق النبات - تفتقر للرقة فهي للغلظة أقرب.. تحسها كما لو كانت مستودع لمواد لا يعرف كنهها مثقلة بسوائل غريبة المزاج - وبدرجة خضار قاتم - تناثرت فوقها وتراصفت مجاميع من الأشواك الثلاثية فبدت كما لو كانت قنفذا نجسا مقززا.. أطالت الأوركيدة النظر وهي تجوب بذلكَ المخلوق الكئيب - وداخلها المٌ وكره وحبٌّ للانتقام يكاد يفجرها فيصب جامه على ذالك البائس الأخرس.
سكنت الأوركيدة طوال ما تبقّى من يومها وهي ترقب الصبار دون أن يُظهر أدنى حركة أو دليل يعرب عن تعمده إيذاءها - حتى سلّمت الشمس للمغيب - وراحت قيان حشرات المساء تعزف في أرجاء الجنينة - وأقبلت آحاد طائر الطَّّّنَّان تجوب أمتاك الزهور بحركة ساحرة سريعة لا تكاد تُبصر كما لو كانت ترفرف بدون جناحِين أغمضت كل الزهرات وارتخين لسلطان النوم - وتكورن حول أنفسهن وكأنهن الطير
أمّا الأوركيدة.. ما برحت بنظرتها عن نبتة الصبار - تطيل النظر وبصمت مطبق ترقبه بحذر - فلقد بدا شكله تحت بصيص نور القمر والذي شقّ طريقه عبر أكوام من الأغصان فتكسَّر فوق صفوانه الصلد وكأنه حيوان نافق.
لم تجرّب الأوركيدة ذلك الشعور من قبل والذي هو عبارة عن خليط كره ومزاج ملحّ للانتقام - ولكنها أصبحت أسيرة ذلك الهاجس حتى نبضت به فصار منها مثابة قلبها الرقيق وسار منها سير الدماء بالعرق.. غلظة – رقَّة,, عفو – انتقام,, جمال - قبح
وهكذا اجتمعت الأضداد كلها فتجمهرت داخل وأمام ذلك الكائن المشهود له بالعفة والرقة والجمال كما المعروف عن زهرة الأوركيد إذ ((تلقب بالحسناء)),تغير مخلوق جُبل على طبع - فولد ولادة أخرى بطباع مختلفة عمّا كان عليه تُرى كيف سيتقبل نفسه بطباعها الجديدة ؟؟
كَلَّمتهُ بلغة هو يجهلها - وبصوت لا يعيه - فهو من صنف لا يمت لها بقرب ويختلف عنها بجلّ المقاييس, ولكنها شعرت بحاجة ملحَّة لأن تتكلم بعد شوط من الخرس طويل.. قالت:
أيها التافه الغليظ.. يا من تفيض بكل معنى مشوه.. أيها الحقير الذي لا يكاد يبين.. أنتَ يا من تتجرّأ عليَّ بغول جسدك كما تجرأت على ضياء القمر فدنست صفاءه بأدوات حربك التي انتصبت على جلدك المدرّع معلنة عن حرب ودماء.. يا عديم النفح.. يا فاقد النفع.. يا حقل الشوك.. يا قيح الجراحات المثقلة.. أَعَلِقَ لسانك بإحدى هذه التي تحمل فأنت أخرسٌ أصم ؟؟ أم أنتَ لا تجيد الكلام كما هو ديدنك والحِراك ؟؟
وما برحت ساكتة عن دمدمتها تلك - حتى تعاود شتمه من جديد.. وفاتها أنها لم تزل صاحية بوقت ما تعودت أن تكون فيه صاحية من قبل .. ((الليل))
أمست رطوبة الليل ونسماته الباردة - تمرُّ من على جسدها المضنى بالسهد - وكأنها الحميم الآن - سرعان ما تبخرت قطرات نداه فوق وريقات باتت على حمتين.. حمى ألم وجرح.. وأخرى امتزجت بالغيظ والكره, والصبّار ساكن - ما نبس ببنت شفة - ولا هشَّ فنشَّ عنه بعض ذباب شتائمها المطنطنة حول رأسه.
وقبل خيط ابيض من الفجر انقطع معه أي صليل للألم على أن جرحها ما زال غائرا مفتوحا - يترقب أن تجود عليه الأيام بالشفاء التام - فتُرَقِّعُهُ من نفس خامة حريرها البراق ولونها النقي - لتعود كما كانت صدَّاحة الجنينة وصغيرتها المدللة.. ولكن: ترى كم تمتلك هذه الأوركيدة من العمر - ليفلح الزمن بمداواة جرحها الغائر ؟ وهل ستشهده يوما وقد برئ ؟؟, أخيرًا - استسلمت للنوم مع صياح ديكة الحقل القريب..
رأت أنها تعتلي عرشا من عاج أبيض رُصِّع بنـُضار جوهرٍ يتيمٍ من كل نوع ولون وتحتها ديباجة من حرير أحمر قان يذفر بعبق زاكٍ يجوب ما تحركت, وحولها خدم وحشم حيث ينتهي النظر, ولكن ذالك الترف ما كان يعني لها شيئا فثمة حزن متشرب بصدرها حيث يبث داخلها إشعاعات الضجر وإحساسات النقص
ينصِّغ عليها لحظة السعادة تلك,
فاستيقظت من ضحى - شارف أن يُقتلعُ عنوة بساعات الظهيرة - والشمس شارفت كثيرا من قعر السماء وهي ما زالت تعبة - مهدودة القوى - لا تشعر بحاجتها اللعب والضحك كما كانت من ذي قبل – فما زادها نومها إلا تعبا.
أمضت يومها - وهي لا تعي ما يدور حولها - وما عادت تلمس ذالك الاندفاع الذي كان يتخللها في الأمس من اجل ولوج اللعب والذي ملأ يومها بالبهجة لذالك خلدت للوهن واستسلمت للضعف الذي انتابها فهي مهمومة - مكدَّرة المزاج.
ذات يوم ~ حيث كنت أقرأ قصة قصيرة لصديقتي الرائعة الراقية إيناس الطاهر
كنت أتدرج فأتدحرج مع الحدث الذي صورت..
فأتصور أشياء لم تأتِ من الكاتب
قلت لها: لقد امتلكتني فكرة وأنا أقرأ لك .. علها بادرة لقصة..
قالت: لولا كتبها.. فكانت هذه..
شوكٌ و حرير
صباح يوم جديد.. لربيع أقبل بألق.. جاءت أنامله الناعمة لترسم حياة خالية من العناء بعد ترقُّبٍ وطول انتظار, أخيرًا.. رحل البرد وانقشع.. وذاب الصقيع واندفع جداولا تتسابق عدوا في ما بينها حدرا مِن على أكتاف ذالك الجبلٍ القريبٍ.. لتقتحم ترانيمها خُلوة الوادي وقدسيِّة صمته المهول كما لو أنها تهشِّم آنية فُـَخرتها انجمادات تلك الليالي الطويلة من شتاء قارسٍ عنيد.. فدبَت الحياة, وانتشت بالدّفء خضرة النبات, وأينعت الأغصان بالزّهرات, وارتوت مروجه من كأسٍ زجاجتها الجمال.. رشفت أخرى فترنحت ثملى بآتون الفناء.
بدت هذه الجُنَيْنَة, متزاحمة النبات – يلفّها شالٌ رقراقٌ حيك من لفيف زهرات زائنات وبأجناس مختلفة, يكاد لا يشبه بعضٌ بعضا حتى تلكم الأغصان تباينت بوريقاتها وتفاضلت لتحار الأنفس من أين تشاء لمسه ومن أي تقطف شمة.
تشابكت وتعانقت على خجل جم, فكانت كما الجدار الذي يشهق بتناسق فريد.. لَبَنَاته كقدود عذارى رُصفت برفق فنان.. ومنها تعرّت شرفات عاجية بيضاء تغري أنامل النظر لتلامسها شغفا وعشقا كما لو أنها كانت صدر كاعب غنجة تتمايس شوقا للعب فتنثر عبر الصباحات الواعدة عبيرها الأخّاذ والذي يرحل مع مختلف الاتجاهات.
كذالك: فلقد حضر الزمن بقوة.. سور دائري يحتضنها كذراعي فارس قوي, متمثلا بشجر السنديان والكافور العظيم المتراص والذي يوشوش حفيف أغصانه الآذان كما لو كان قائلا: صه واكتف بالنظر ودع عنك طنين الأفواه.
موشوما برموز وطلاسم هيرغلوفية حُفرت على متن جسده الأملس الصلد لتروي لنا حادثة وقعت فجمعت بدقائقها دقات قلبين غفيا على تراتيل قديس الغرام حيث لا عين تبصر ولا واش يسترق السمع.
منظر متكامل - متداخل - ممتزج - لا يشوبه النشاز– سجادة أبدعت خيالات حائكها فهي رواية تحاكي القرّاء وقصيدة تجتذب العشاق.. كل من شاهد تلك اللوحة الرائعة يسبّح الله في ملكوته ولم ينس ريشة ألجنائني وبصماته الجلية المعالم.
أما باقي الزهور – فما أشبه عمرها بها, فهو كما هيَ رقيق.. لا يمتلك نفـَس المطاولة ولا مسايرة الأيام, وُرِيْقاتها وكأنها خدود أطفال تنبض بالرِّقة - متشربة بالحمرة – تُبصَرُ خلالها أوردة دقيقة كما السواقي الرقيقة, تتمايل طربا على ساق نحيل واهن لا يكاد يعرف الثبات وإن كان بوجه أرق نسمة مرقت خلاله فداعبه, وجذر قنع مرغما بطبقة ظاهرة من التربة.. كزهرة ألستروميريا الجميلة بألوانها الأصفر والمشمشي والبرتقالي والأحمر والزهري والبنفسجي القاني والفاتح والأبيض الناصع والمائل للصفرة، وباقات شقائق النعمان التي هي بألوان طيف الشمس, وزهرة الأستر, وعصفور الجنة, والزنبق, والقرنفل, والأقحوان, والنرجس, والديلقنيوم, والفريسيا, والديزي, وزنبق الجلاديلياس, وزنبق الياقوت, والسوسن, وزنبق الإيساتك.
كل هذه المخلوقات لا تمتلك أن تعيش أكثر من عشرين يوم, كما هو حال هذه الأوركيدة البيضاء - البهية الطلعة - الفاتنة الرشاقة - الناصعة البياض - الرائقة المزاج - الرائعة الجمال.. تـَلاعبُ بها نسمات الصباح في كل الاتجاهات فما قاومتها بل استسلمت لها شغفا وترنَّحت لها طربا - بقوام أقرب ما يكون لقوام فاتنة عذراء فجريّة أللون - قُحِّيَّة الغريزة, انطلقت كما فرس مجنون عاث بالأماكن تخبطا يعجن الهواء بقوائمه الرشيقة - يثب هنا ويجري هناك, فهو لا يكاد يستقر على حال ولا يكاد ينتمي لمكان, هي ثملى بالشباب, نشوى بالجمال, عُنفى بغريزة جمحاء, وبجسد بكر ما دَبَتْ عليه قوائم نملة قط فكانت في أتم استجابتها للرغبات واضعف ما تكون عن مقاومة اللعب والحركات, أغمضت عينيها واستسلمت لهبوب النسائم, تلاعبها وتدللها حنان الأم لولدها الصغير, فكانت تنتظر هبيب نسمة عن يسار تؤرجحها نحو اليمين فتفاجئها النسمة عبر اليمين دفعا بها نحو اليسار, وحين ارتقبت أن تأتيها هذه المرة قبالة وجهها - غافلتها لتوكزها برفق من الخلف - وهي ما توقفت عن الضحك بقهقهات عالية النبرات كتلك التي يطلقنها بائعات الهوى ,لفتت أسماع كل أزهار الجُنينة - فكل شاركها فرحتها تلك عبر ابتسامات ارتسمت على محيَّاهنَّ
فما انفكت وهي تضفي على الجو مسحة من سعادة
بدت وكأنها زنبقة ماء - تقاذفتها أمواج شاطئ هادئة مرة تشهق بها وتارة تنخفض, أو أنها ريشة طاشت في فناءات ملؤها النور, هائمة بأثير من خيال, كراقصة باليه تحوم وتعوم على رؤوس أصابع قدميها تقفز برشاقة الغزلان عبر هذه الزنبقة لتلك وتلفُّ حول هذه القطرة لتلكَ التي انزلقت من أعالي غصن فاستقرت بنهاية آخر ورقة مدببة كما السكين - تتماوج بألوان طيف الشمس, فهي لا تكاد تستقر على لون معين - حيث تحركت العين تغير اللون.. ثم انسلّت فانسدلت للأسفل وتشظَّت كأنها مرآة هوت فتكسرت بجرس ساحر الرنّة .
قد تكون هذه الأوركيدة تعلم عن مدى قصر عمرها الذي وهبها الله - أو لا تكون تعلم - فهي تعيش بين سبع إلى أربعة عشر يوم - لذلك هي لا تضيِّعُ لحظة دون أن ترشف من ثناياها الرحيق, تعي جيدًا أنها خلقت من أجل أن توهب الأرض جمالا, وتكتسي من الأرض الألق,
بقيت على لعبها وهي تمرح بما جادت عليها الطبيعة من حركة وما سمح لها عودها الرقيق من انحناءات,
فإذا بلذعة طعنة - تقطع عليها نشوة اللعب وتنتزع من إحساسها الخيال الثمل - لتزرعها بـواقع وجود أليم.. فَزِعَ شعور الثمالة عنها فتدارى.. قطعت ضحكتها المجلجلة - بصرخة نَشِزَة أي
ما كادت لتستقر بعد رعشة ألم - حتى ذرفت دمعة انخرطت عبر متكها الدقيق متدحرجة نحو ورقة مخدوشة ليستقر بعضها بزعنفة ذالك الجرح الصغير, أمسكت الأوركيدة عن كل حركة وكلام وهي تمضغ ألمها الغليظ وتبصر وريقتها الصغيرة الحريرية وقد خُدشت, فراح يتدافع داخلها هاجس من ألمٍ ينغر بهوادة ومن ثم يتدرج تصعُّدا بالإلحاح - ليستفز من أعماقها الآهات ويزرعها بواقع المعاناة.
أعربت عن إحساس كئيب خيَّم فجأة على جوها المترف المكتظ باللهو وببراءتها المشهودة وبتلك العينين الضاحكتين.. حيث مكان ذالك الخدش كانت الأوركيدة تمعن النظر بشفاه أثقلتها الصدمة وهالها عنف الحدث.. وحميم بخَّر خيال الحميَّا فلقد سُلبت نشوتها على حين غرة.. جَمَّعت كل ما اسطاعت جمعة من رباطة جأش وتلفَّتت حيث اليمين وحيث الشمال تبحث عن مسبب لما هي فيه من ألم, فما فتئت حتى شاهدت نبتة غريبة ساكنة لم تلحظها من ذي قبل > صبار <
يجثم على ساق متين يشبه ورقة نبات عظيمة ولكنها ليست كما أوراق النبات - تفتقر للرقة فهي للغلظة أقرب.. تحسها كما لو كانت مستودع لمواد لا يعرف كنهها مثقلة بسوائل غريبة المزاج - وبدرجة خضار قاتم - تناثرت فوقها وتراصفت مجاميع من الأشواك الثلاثية فبدت كما لو كانت قنفذا نجسا مقززا.. أطالت الأوركيدة النظر وهي تجوب بذلكَ المخلوق الكئيب - وداخلها المٌ وكره وحبٌّ للانتقام يكاد يفجرها فيصب جامه على ذالك البائس الأخرس.
سكنت الأوركيدة طوال ما تبقّى من يومها وهي ترقب الصبار دون أن يُظهر أدنى حركة أو دليل يعرب عن تعمده إيذاءها - حتى سلّمت الشمس للمغيب - وراحت قيان حشرات المساء تعزف في أرجاء الجنينة - وأقبلت آحاد طائر الطَّّّنَّان تجوب أمتاك الزهور بحركة ساحرة سريعة لا تكاد تُبصر كما لو كانت ترفرف بدون جناحِين أغمضت كل الزهرات وارتخين لسلطان النوم - وتكورن حول أنفسهن وكأنهن الطير
أمّا الأوركيدة.. ما برحت بنظرتها عن نبتة الصبار - تطيل النظر وبصمت مطبق ترقبه بحذر - فلقد بدا شكله تحت بصيص نور القمر والذي شقّ طريقه عبر أكوام من الأغصان فتكسَّر فوق صفوانه الصلد وكأنه حيوان نافق.
لم تجرّب الأوركيدة ذلك الشعور من قبل والذي هو عبارة عن خليط كره ومزاج ملحّ للانتقام - ولكنها أصبحت أسيرة ذلك الهاجس حتى نبضت به فصار منها مثابة قلبها الرقيق وسار منها سير الدماء بالعرق.. غلظة – رقَّة,, عفو – انتقام,, جمال - قبح
وهكذا اجتمعت الأضداد كلها فتجمهرت داخل وأمام ذلك الكائن المشهود له بالعفة والرقة والجمال كما المعروف عن زهرة الأوركيد إذ ((تلقب بالحسناء)),تغير مخلوق جُبل على طبع - فولد ولادة أخرى بطباع مختلفة عمّا كان عليه تُرى كيف سيتقبل نفسه بطباعها الجديدة ؟؟
كَلَّمتهُ بلغة هو يجهلها - وبصوت لا يعيه - فهو من صنف لا يمت لها بقرب ويختلف عنها بجلّ المقاييس, ولكنها شعرت بحاجة ملحَّة لأن تتكلم بعد شوط من الخرس طويل.. قالت:
أيها التافه الغليظ.. يا من تفيض بكل معنى مشوه.. أيها الحقير الذي لا يكاد يبين.. أنتَ يا من تتجرّأ عليَّ بغول جسدك كما تجرأت على ضياء القمر فدنست صفاءه بأدوات حربك التي انتصبت على جلدك المدرّع معلنة عن حرب ودماء.. يا عديم النفح.. يا فاقد النفع.. يا حقل الشوك.. يا قيح الجراحات المثقلة.. أَعَلِقَ لسانك بإحدى هذه التي تحمل فأنت أخرسٌ أصم ؟؟ أم أنتَ لا تجيد الكلام كما هو ديدنك والحِراك ؟؟
وما برحت ساكتة عن دمدمتها تلك - حتى تعاود شتمه من جديد.. وفاتها أنها لم تزل صاحية بوقت ما تعودت أن تكون فيه صاحية من قبل .. ((الليل))
أمست رطوبة الليل ونسماته الباردة - تمرُّ من على جسدها المضنى بالسهد - وكأنها الحميم الآن - سرعان ما تبخرت قطرات نداه فوق وريقات باتت على حمتين.. حمى ألم وجرح.. وأخرى امتزجت بالغيظ والكره, والصبّار ساكن - ما نبس ببنت شفة - ولا هشَّ فنشَّ عنه بعض ذباب شتائمها المطنطنة حول رأسه.
وقبل خيط ابيض من الفجر انقطع معه أي صليل للألم على أن جرحها ما زال غائرا مفتوحا - يترقب أن تجود عليه الأيام بالشفاء التام - فتُرَقِّعُهُ من نفس خامة حريرها البراق ولونها النقي - لتعود كما كانت صدَّاحة الجنينة وصغيرتها المدللة.. ولكن: ترى كم تمتلك هذه الأوركيدة من العمر - ليفلح الزمن بمداواة جرحها الغائر ؟ وهل ستشهده يوما وقد برئ ؟؟, أخيرًا - استسلمت للنوم مع صياح ديكة الحقل القريب..
رأت أنها تعتلي عرشا من عاج أبيض رُصِّع بنـُضار جوهرٍ يتيمٍ من كل نوع ولون وتحتها ديباجة من حرير أحمر قان يذفر بعبق زاكٍ يجوب ما تحركت, وحولها خدم وحشم حيث ينتهي النظر, ولكن ذالك الترف ما كان يعني لها شيئا فثمة حزن متشرب بصدرها حيث يبث داخلها إشعاعات الضجر وإحساسات النقص
ينصِّغ عليها لحظة السعادة تلك,
فاستيقظت من ضحى - شارف أن يُقتلعُ عنوة بساعات الظهيرة - والشمس شارفت كثيرا من قعر السماء وهي ما زالت تعبة - مهدودة القوى - لا تشعر بحاجتها اللعب والضحك كما كانت من ذي قبل – فما زادها نومها إلا تعبا.
أمضت يومها - وهي لا تعي ما يدور حولها - وما عادت تلمس ذالك الاندفاع الذي كان يتخللها في الأمس من اجل ولوج اللعب والذي ملأ يومها بالبهجة لذالك خلدت للوهن واستسلمت للضعف الذي انتابها فهي مهمومة - مكدَّرة المزاج.