المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : شَ ـوكٌ وَ حَ ـرير


أحمد بدر
11/08/2008, 06:29 PM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته...
ذات يوم ~ حيث كنت أقرأ قصة قصيرة لصديقتي الرائعة الراقية إيناس الطاهر
كنت أتدرج فأتدحرج مع الحدث الذي صورت..
فأتصور أشياء لم تأتِ من الكاتب
قلت لها: لقد امتلكتني فكرة وأنا أقرأ لك .. علها بادرة لقصة..
قالت: لولا كتبها.. فكانت هذه..



شوكٌ و حرير







صباح يوم جديد.. لربيع أقبل بألق.. جاءت أنامله الناعمة لترسم حياة خالية من العناء بعد ترقُّبٍ وطول انتظار, أخيرًا.. رحل البرد وانقشع.. وذاب الصقيع واندفع جداولا تتسابق عدوا في ما بينها حدرا مِن على أكتاف ذالك الجبلٍ القريبٍ.. لتقتحم ترانيمها خُلوة الوادي وقدسيِّة صمته المهول كما لو أنها تهشِّم آنية فُـَخرتها انجمادات تلك الليالي الطويلة من شتاء قارسٍ عنيد.. فدبَت الحياة, وانتشت بالدّفء خضرة النبات, وأينعت الأغصان بالزّهرات, وارتوت مروجه من كأسٍ زجاجتها الجمال.. رشفت أخرى فترنحت ثملى بآتون الفناء.

بدت هذه الجُنَيْنَة, متزاحمة النبات – يلفّها شالٌ رقراقٌ حيك من لفيف زهرات زائنات وبأجناس مختلفة, يكاد لا يشبه بعضٌ بعضا حتى تلكم الأغصان تباينت بوريقاتها وتفاضلت لتحار الأنفس من أين تشاء لمسه ومن أي تقطف شمة.
تشابكت وتعانقت على خجل جم, فكانت كما الجدار الذي يشهق بتناسق فريد.. لَبَنَاته كقدود عذارى رُصفت برفق فنان.. ومنها تعرّت شرفات عاجية بيضاء تغري أنامل النظر لتلامسها شغفا وعشقا كما لو أنها كانت صدر كاعب غنجة تتمايس شوقا للعب فتنثر عبر الصباحات الواعدة عبيرها الأخّاذ والذي يرحل مع مختلف الاتجاهات.

كذالك: فلقد حضر الزمن بقوة.. سور دائري يحتضنها كذراعي فارس قوي, متمثلا بشجر السنديان والكافور العظيم المتراص والذي يوشوش حفيف أغصانه الآذان كما لو كان قائلا: صه واكتف بالنظر ودع عنك طنين الأفواه.
موشوما برموز وطلاسم هيرغلوفية حُفرت على متن جسده الأملس الصلد لتروي لنا حادثة وقعت فجمعت بدقائقها دقات قلبين غفيا على تراتيل قديس الغرام حيث لا عين تبصر ولا واش يسترق السمع.
منظر متكامل - متداخل - ممتزج - لا يشوبه النشاز– سجادة أبدعت خيالات حائكها فهي رواية تحاكي القرّاء وقصيدة تجتذب العشاق.. كل من شاهد تلك اللوحة الرائعة يسبّح الله في ملكوته ولم ينس ريشة ألجنائني وبصماته الجلية المعالم.
أما باقي الزهور – فما أشبه عمرها بها, فهو كما هيَ رقيق.. لا يمتلك نفـَس المطاولة ولا مسايرة الأيام, وُرِيْقاتها وكأنها خدود أطفال تنبض بالرِّقة - متشربة بالحمرة – تُبصَرُ خلالها أوردة دقيقة كما السواقي الرقيقة, تتمايل طربا على ساق نحيل واهن لا يكاد يعرف الثبات وإن كان بوجه أرق نسمة مرقت خلاله فداعبه, وجذر قنع مرغما بطبقة ظاهرة من التربة.. كزهرة ألستروميريا الجميلة بألوانها الأصفر والمشمشي والبرتقالي والأحمر والزهري والبنفسجي القاني والفاتح والأبيض الناصع والمائل للصفرة، وباقات شقائق النعمان التي هي بألوان طيف الشمس, وزهرة الأستر, وعصفور الجنة, والزنبق, والقرنفل, والأقحوان, والنرجس, والديلقنيوم, والفريسيا, والديزي, وزنبق الجلاديلياس, وزنبق الياقوت, والسوسن, وزنبق الإيساتك.
كل هذه المخلوقات لا تمتلك أن تعيش أكثر من عشرين يوم, كما هو حال هذه الأوركيدة البيضاء - البهية الطلعة - الفاتنة الرشاقة - الناصعة البياض - الرائقة المزاج - الرائعة الجمال.. تـَلاعبُ بها نسمات الصباح في كل الاتجاهات فما قاومتها بل استسلمت لها شغفا وترنَّحت لها طربا - بقوام أقرب ما يكون لقوام فاتنة عذراء فجريّة أللون - قُحِّيَّة الغريزة, انطلقت كما فرس مجنون عاث بالأماكن تخبطا يعجن الهواء بقوائمه الرشيقة - يثب هنا ويجري هناك, فهو لا يكاد يستقر على حال ولا يكاد ينتمي لمكان, هي ثملى بالشباب, نشوى بالجمال, عُنفى بغريزة جمحاء, وبجسد بكر ما دَبَتْ عليه قوائم نملة قط فكانت في أتم استجابتها للرغبات واضعف ما تكون عن مقاومة اللعب والحركات, أغمضت عينيها واستسلمت لهبوب النسائم, تلاعبها وتدللها حنان الأم لولدها الصغير, فكانت تنتظر هبيب نسمة عن يسار تؤرجحها نحو اليمين فتفاجئها النسمة عبر اليمين دفعا بها نحو اليسار, وحين ارتقبت أن تأتيها هذه المرة قبالة وجهها - غافلتها لتوكزها برفق من الخلف - وهي ما توقفت عن الضحك بقهقهات عالية النبرات كتلك التي يطلقنها بائعات الهوى ,لفتت أسماع كل أزهار الجُنينة - فكل شاركها فرحتها تلك عبر ابتسامات ارتسمت على محيَّاهنَّ
فما انفكت وهي تضفي على الجو مسحة من سعادة
بدت وكأنها زنبقة ماء - تقاذفتها أمواج شاطئ هادئة مرة تشهق بها وتارة تنخفض, أو أنها ريشة طاشت في فناءات ملؤها النور, هائمة بأثير من خيال, كراقصة باليه تحوم وتعوم على رؤوس أصابع قدميها تقفز برشاقة الغزلان عبر هذه الزنبقة لتلك وتلفُّ حول هذه القطرة لتلكَ التي انزلقت من أعالي غصن فاستقرت بنهاية آخر ورقة مدببة كما السكين - تتماوج بألوان طيف الشمس, فهي لا تكاد تستقر على لون معين - حيث تحركت العين تغير اللون.. ثم انسلّت فانسدلت للأسفل وتشظَّت كأنها مرآة هوت فتكسرت بجرس ساحر الرنّة .
قد تكون هذه الأوركيدة تعلم عن مدى قصر عمرها الذي وهبها الله - أو لا تكون تعلم - فهي تعيش بين سبع إلى أربعة عشر يوم - لذلك هي لا تضيِّعُ لحظة دون أن ترشف من ثناياها الرحيق, تعي جيدًا أنها خلقت من أجل أن توهب الأرض جمالا, وتكتسي من الأرض الألق,
بقيت على لعبها وهي تمرح بما جادت عليها الطبيعة من حركة وما سمح لها عودها الرقيق من انحناءات,
فإذا بلذعة طعنة - تقطع عليها نشوة اللعب وتنتزع من إحساسها الخيال الثمل - لتزرعها بـواقع وجود أليم.. فَزِعَ شعور الثمالة عنها فتدارى.. قطعت ضحكتها المجلجلة - بصرخة نَشِزَة أي
ما كادت لتستقر بعد رعشة ألم - حتى ذرفت دمعة انخرطت عبر متكها الدقيق متدحرجة نحو ورقة مخدوشة ليستقر بعضها بزعنفة ذالك الجرح الصغير, أمسكت الأوركيدة عن كل حركة وكلام وهي تمضغ ألمها الغليظ وتبصر وريقتها الصغيرة الحريرية وقد خُدشت, فراح يتدافع داخلها هاجس من ألمٍ ينغر بهوادة ومن ثم يتدرج تصعُّدا بالإلحاح - ليستفز من أعماقها الآهات ويزرعها بواقع المعاناة.
أعربت عن إحساس كئيب خيَّم فجأة على جوها المترف المكتظ باللهو وببراءتها المشهودة وبتلك العينين الضاحكتين.. حيث مكان ذالك الخدش كانت الأوركيدة تمعن النظر بشفاه أثقلتها الصدمة وهالها عنف الحدث.. وحميم بخَّر خيال الحميَّا فلقد سُلبت نشوتها على حين غرة.. جَمَّعت كل ما اسطاعت جمعة من رباطة جأش وتلفَّتت حيث اليمين وحيث الشمال تبحث عن مسبب لما هي فيه من ألم, فما فتئت حتى شاهدت نبتة غريبة ساكنة لم تلحظها من ذي قبل > صبار <
يجثم على ساق متين يشبه ورقة نبات عظيمة ولكنها ليست كما أوراق النبات - تفتقر للرقة فهي للغلظة أقرب.. تحسها كما لو كانت مستودع لمواد لا يعرف كنهها مثقلة بسوائل غريبة المزاج - وبدرجة خضار قاتم - تناثرت فوقها وتراصفت مجاميع من الأشواك الثلاثية فبدت كما لو كانت قنفذا نجسا مقززا.. أطالت الأوركيدة النظر وهي تجوب بذلكَ المخلوق الكئيب - وداخلها المٌ وكره وحبٌّ للانتقام يكاد يفجرها فيصب جامه على ذالك البائس الأخرس.
سكنت الأوركيدة طوال ما تبقّى من يومها وهي ترقب الصبار دون أن يُظهر أدنى حركة أو دليل يعرب عن تعمده إيذاءها - حتى سلّمت الشمس للمغيب - وراحت قيان حشرات المساء تعزف في أرجاء الجنينة - وأقبلت آحاد طائر الطَّّّنَّان تجوب أمتاك الزهور بحركة ساحرة سريعة لا تكاد تُبصر كما لو كانت ترفرف بدون جناحِين أغمضت كل الزهرات وارتخين لسلطان النوم - وتكورن حول أنفسهن وكأنهن الطير
أمّا الأوركيدة.. ما برحت بنظرتها عن نبتة الصبار - تطيل النظر وبصمت مطبق ترقبه بحذر - فلقد بدا شكله تحت بصيص نور القمر والذي شقّ طريقه عبر أكوام من الأغصان فتكسَّر فوق صفوانه الصلد وكأنه حيوان نافق.
لم تجرّب الأوركيدة ذلك الشعور من قبل والذي هو عبارة عن خليط كره ومزاج ملحّ للانتقام - ولكنها أصبحت أسيرة ذلك الهاجس حتى نبضت به فصار منها مثابة قلبها الرقيق وسار منها سير الدماء بالعرق.. غلظة – رقَّة,, عفو – انتقام,, جمال - قبح
وهكذا اجتمعت الأضداد كلها فتجمهرت داخل وأمام ذلك الكائن المشهود له بالعفة والرقة والجمال كما المعروف عن زهرة الأوركيد إذ ((تلقب بالحسناء)),تغير مخلوق جُبل على طبع - فولد ولادة أخرى بطباع مختلفة عمّا كان عليه تُرى كيف سيتقبل نفسه بطباعها الجديدة ؟؟
كَلَّمتهُ بلغة هو يجهلها - وبصوت لا يعيه - فهو من صنف لا يمت لها بقرب ويختلف عنها بجلّ المقاييس, ولكنها شعرت بحاجة ملحَّة لأن تتكلم بعد شوط من الخرس طويل.. قالت:
أيها التافه الغليظ.. يا من تفيض بكل معنى مشوه.. أيها الحقير الذي لا يكاد يبين.. أنتَ يا من تتجرّأ عليَّ بغول جسدك كما تجرأت على ضياء القمر فدنست صفاءه بأدوات حربك التي انتصبت على جلدك المدرّع معلنة عن حرب ودماء.. يا عديم النفح.. يا فاقد النفع.. يا حقل الشوك.. يا قيح الجراحات المثقلة.. أَعَلِقَ لسانك بإحدى هذه التي تحمل فأنت أخرسٌ أصم ؟؟ أم أنتَ لا تجيد الكلام كما هو ديدنك والحِراك ؟؟

وما برحت ساكتة عن دمدمتها تلك - حتى تعاود شتمه من جديد.. وفاتها أنها لم تزل صاحية بوقت ما تعودت أن تكون فيه صاحية من قبل .. ((الليل))
أمست رطوبة الليل ونسماته الباردة - تمرُّ من على جسدها المضنى بالسهد - وكأنها الحميم الآن - سرعان ما تبخرت قطرات نداه فوق وريقات باتت على حمتين.. حمى ألم وجرح.. وأخرى امتزجت بالغيظ والكره, والصبّار ساكن - ما نبس ببنت شفة - ولا هشَّ فنشَّ عنه بعض ذباب شتائمها المطنطنة حول رأسه.
وقبل خيط ابيض من الفجر انقطع معه أي صليل للألم على أن جرحها ما زال غائرا مفتوحا - يترقب أن تجود عليه الأيام بالشفاء التام - فتُرَقِّعُهُ من نفس خامة حريرها البراق ولونها النقي - لتعود كما كانت صدَّاحة الجنينة وصغيرتها المدللة.. ولكن: ترى كم تمتلك هذه الأوركيدة من العمر - ليفلح الزمن بمداواة جرحها الغائر ؟ وهل ستشهده يوما وقد برئ ؟؟, أخيرًا - استسلمت للنوم مع صياح ديكة الحقل القريب..

رأت أنها تعتلي عرشا من عاج أبيض رُصِّع بنـُضار جوهرٍ يتيمٍ من كل نوع ولون وتحتها ديباجة من حرير أحمر قان يذفر بعبق زاكٍ يجوب ما تحركت, وحولها خدم وحشم حيث ينتهي النظر, ولكن ذالك الترف ما كان يعني لها شيئا فثمة حزن متشرب بصدرها حيث يبث داخلها إشعاعات الضجر وإحساسات النقص
ينصِّغ عليها لحظة السعادة تلك,

فاستيقظت من ضحى - شارف أن يُقتلعُ عنوة بساعات الظهيرة - والشمس شارفت كثيرا من قعر السماء وهي ما زالت تعبة - مهدودة القوى - لا تشعر بحاجتها اللعب والضحك كما كانت من ذي قبل – فما زادها نومها إلا تعبا.
أمضت يومها - وهي لا تعي ما يدور حولها - وما عادت تلمس ذالك الاندفاع الذي كان يتخللها في الأمس من اجل ولوج اللعب والذي ملأ يومها بالبهجة لذالك خلدت للوهن واستسلمت للضعف الذي انتابها فهي مهمومة - مكدَّرة المزاج.

أحمد بدر
11/08/2008, 06:31 PM
عادت تتأمل الصبار من جديد وبدأت تتفكر بهيئته وطريقة خلقه ثم تجم عنه وتصد - وتشيح بوجهها اليافع البريء لتلعنه من جديد - حتى دخل الليل, هي لا تشتكي ألما فلقد ولى ورحل أما أنها متعبة فنعم.. لكنها لا تدري لمه النوم فارقها ومنذ أن خُدشت
حاولت أن تدافع فتدفع عنها هجوم تلك الأفكار والتي بدت وكأنها وساوس جنون - أو نوع من هستيريا شنّجتها الشيء الكثير, هواجس ليس لها حدود لتنتهي - وكأنها السيل العرم الذي أكتسح كل مكان - حيل بينها وبين الرقاد - وما أن دخل الصباح حتى تمكنت من النوم واستيقظت في نفس الموعد الذي استيقظت فيه من يومها المنصرم .

هكذا انقلبت حياة الأوركيدة المسكينة رأساً على عقب, أصبح وجودها مرتهن بجوف الليل وعتمته, أمَّا نهارها فإن هي تواجدت فبدون إدراك أو تفاعل - وكأن الجنينة الحبيبة إلى قلبها بالأمس قد أصبحت غريبة عنها اليوم.. لا تمت لها بصلة, وما باقات الزهور التي بجانبها سوى جمادات لا تحسها حياة وليست ممتلكة للحواس - هامدة تفتقر لحرارة الكائن ونائية عنها للبعيد كما لو كانت من صنف غريب.
وما أن جاء الليل - وأقبل بنجومه البعيدة المتلألئة - وبقمره الصافي الوضاء - حتى دبا فيها شعور غريب - ما قط شعرته من ذي قبل – راحة – سكون – هدوء, وكأنها وجدت عالما جديدا - اكتشفته للتو فهي إليه أقرب, شعرت معه بالانتماء وتنفست خلاله الصعداء, كأن ابتعادها عن رفيقاتها - قد أضفى عليها سكنة جعلتها أقرب إلى نفسها أعرف بحالها, سكون الليل - أضفى على تلك الأوركيدة شاعرية مثقلة بالعواطف - تعجُّ برومانسية غريبة عنها - مبهمة الكنه - وحاجة ملحَّه لفهم مكنونات الأشياء - وطباع المخلوقات وما شعرت بذلك لولا حاجتها لاكتشاف نفسها التي هي بين جوانحها سكن.

تراكم على جرحها طبقة من البروبوليس معربا عن توجه حثيث للشفاء,
لكن - ثمة حكَّة تؤرقها من ذلك الجرح وهي عاجزة من أن تجد من يقوم لها بمهمة حكه تلك, فحينما تَلامس جسدها الرقيق الناعم مع أجساد رفيقاتها الأخريات - شعرت أن تلكَ النعومة لا تمتلك أداة الخدش وهي الآن بحاجة إلى الخشن أكثر من حاجتها للناعم
شعرت بالنقص - بالشح - بالحرمان
وذات يوم :
كانت تتهيأ لموعد نومتها المعهودة - فتأخرت قليلا دون قصد منها حيث هبت نسائم الصباح مبشرة بالخير - ومستبشرة بسحر نهار جميل, وأوراق الأوركيدة تكاد أن تنحني فتنطبق عليها لشدة تعبها الذي تشعرُ وحاجتها للنوم,
أخلدت نفسها للنسمات معتمدة عليها كسرير, مالت بها النسمات - وحنت عودها الرقيق أكثر فأكثر - وما وجدت نفسها إلا وهي تقترب من مكان الصبار حيث جسده الشائك الجاثم الواجم, شعرت الأوركيدة بحجم الخطر المحدق - ولكن ثمة هاجس جعلها تغض الطرف عن ذلك الخطر - وكأن سحرًا قد استحوذ على لبها - فسلبها قدرة المناورة والقرار. بدأت النسمات تدفعها تجاه الصبار - وتعيدها لمكانها وهي متأرجحة هنا - مترنِّحة هناك - فراحت وريقاتها الناعمة تمر فوق أشواك مشط الصبار اللاذعة وهي تحبس أنفاسها بداخلها وعيناها تقلبتا - أما وقلبها فبدا خافقا خائفا يرتعد فرقا - وما قرارها بقادر على أن يتخذ لنفسه من مكان بين زحمة الاضطراب الذي يغلفها فينحرف بالحدث جانبا, أرخت نفسها أكثر فأكثر - فراحت تمرر جرحها من على أمشاط الأشواك المدببة الدقيقة للصبار - وبرفق تام – وبتماس خفيف شعرت خلالها بلذة ما بعدها لذة وقشعريرة سلبتها حتى أدنى حركة وجعلتها أضعف من أن تستطيع حتى أدراك ما يحدث أو سيحدث لها إن هي تمادت بالميلان نحوه أكثر, وكلما زادت نشوتها تلك - زاد معها الخوف فقالت لنفسها:
حين أبتعدُ عنه هذه المرة - سأكتفي ولن أعاود الميلان نحوه مجددا, وحينما عادت لمكانها الطبيعي - تلبثت قليلا وما أحست بنفسها إلا وهي مستسلمة لنسمة أخرى أرخت نفسها لها من جديد - وكأنها تقول: مرة أخرى لن تضر.
بدأت وريقات الأوركيدة تتخدش الواحدة تلو الأخرى- وهي متلذذة بفعلتها تلك
حتى سكنت نسائم الصباح.. هكذا سلخت الأوركيدة سويعات ذلك الصباح مع عدوها أمس, ( ؟) أليوم.. بتجربة - تركت داخلها انطباعا يحتاج منها لتفسير مبين ولكن - بعد أن تستفيق من نومتها التي داهمتها على حين غرة - فتغلغلت داخلها - وأسدلت فوقها الستار.
تفتحت الأوركيدة من جديد - لتبصر ما حل بأوراقها من خدوش, لكنها وبهذه المرة - لم تك ناقمة على أحد - بل على العكس - التفتت نحو الصبار ورمقته بنظرة - كادت تفيض خلالها مهجتها فتفقدها الحياة,
نظرتها تلك ما اسطاعت ترجمتها, فهي لا تقوى على إدراكها, شيء خارج عن الإرادة
والصبار كطبعه - راقد - جاثم - لم يع شيئا مما يجري حوله
بدأت الأوركيدة تتفكر مليا في ما جرى - وتتفرس تفرس اللبيب في ما يمتلكه ذلك الكائن الغريب - وما تمتلكه هي وشعرت نحوه بشد وجذب - وحاجة شديدة للمكوث قربه وأن تنهل من أشياءه التي تفتقرها, تساءلت:
تُرى - لِمَ لا تمتلك الرقَّة من أن تمدني بأسباب السعادة وتملأ علي حياتي ؟
ولِمَ النعومة لا تفي معي بالحاجات؟ ولِمَ الوجع والألم اللذَان مرا بي - تحولا للذة منقطعة النظير, فَبُتُّ اشتهيها في كل لحظة تمر علي ؟.

وهكذا جابهت الأوركيدة ألف سؤال كان عليها الإجابة عليهم الواحد فـ الآخر
تفكرت قليلا بالصبار - فقالت:
هو وهبني الراحة - فكان نصيبي من وخزه إحساس ما شعرته من قبل,
واستدركت: نعم هو جعلني أتذوق طعم التغيير الذي كنت أتوق له - ولمست بقربه وجودا ما تلمسته في غيره من قبل –
ترى هل هو صنوي الذي يعلم عن مكامن احتياجاتي الكثير ؟
أجابها صوت خافت من داخلها:
ما لكِ - آستخفاف بنفسك ؟؟
كيف خطر ببالك أن الحرير والشوك يمكن لهما أن يلتقيا؟, انظري من أنتِ - بل انظري له - لا مجال حتى لمجرد التفكير بالمقارنة, أعيدي النظر فيه من جديد - تمعني بأشواكه
تطلعي بجثته - تبصري بلونه - إنه وحش يقتات على جثث الموتى - مسخٌ مقزز
وأنتِ
أنتِ يا من تتمايلين برشاقة الغيد يا من تخطفي النظرات - فلا تقوى الحِدق إمساكا عن التطلع بجمالك الأخَّاذ.
أقرت الأوركيدة لذلك الهاجس الذي يكلمها - واستسلمت لحججه الدامغة - ثم عادت تتفكر وتتساءل من جديد: ترى ما ألذي وهبته أنا ؟, هل هو بحاجتي ؟, أم أنا التي بحاجته وحسب ؟, وإن كنت أنا من يحتاجه - فذلك يعني أنه قائم بذاته ليس تبعا لأحد - متصرف بطباعه - لا يجبره على فعل هو لا يراه أحد, أما أنا فقائمة بغيري - سليبة الإرادة
وها هو لم يحرِّك ساكنا ولم يعرب لي ولو عن أدنى حركة أو يحاول تكليمي – وأنا أتضور له إعجابا.. أجابها هاجسها من جديد:
حتى وإن كان الأمر كما تقولين – فذا لا يعني انه جميل - وأين الجمال من ذلك الوجوم ؟
وأين الجمال من تلك الخشونة؟ - انه خشن ثابت وأنتِ ناعمة تتمايلين,
سكتت .. وعادت تبصره مجددا وهي تقارن نفسها به, تقارن النعومة بالخشونة, تقارن الرشاقة بالغلظة, تقارن اللون, تقارن العبير, وبعد كل ذلك التفكر والتدبر - برز أمامها سؤال آخر: تُرى - آلصلابة أصل الجمال, أم الرقَّة ؟؟
ثم ازدادت تساؤلاتها وبإلحاح.. قالت:
علامَ يوصف الرقيق بالجمال ؟, أنا لست أدري إن كانت حصة الصلد منه العدم ؟؟
ثم راحت تهمهم بصوت خافت - ترى ما هو كنه الجمال ؟
إن أنا عبتُ عليه وجوم صورته وجثوم جثته - فذلك يعني أنه هو المتصرف بالريح أو على الأقل هو قادر على عنادها, أمّا رشاقتي وتمايلي - فذا لأنني مُلك للرياح هي التي تعبث بي - وهي من يمتلك خيار سكوني وحِراكي بل وقتلي متى ما أرادت ذلك.

بدت الأوركيدة على حال لا تحسد عليه
أين كانت هذه المسكينة من كل هذه الأحاسيس والتساؤلات والاضطرابات - وأين كانت عنها من ذي قبل - ولِمه كل هذه الأفكار والهواجس تهجم عليها هجمة رجل واحد في آن واحد ؟؟, لم تستطع الأوركيدة أن تدفع عنها شعور الإعجاب تجاه الصبار - على الأقل بينها وبين ذاتها التي تكلمها – فتقلب الغرائز معهود, ولكن – وبهذه السرعة ؟؟!!
ذا يعني أن أوركيدتنا تعاني من خلط حقيقي بما يختلجها من عاطفة وغريزة,
هي لمست في غلظته رقتها - وأبصرت في قوة جثته ضعفها, فعنى لها التكامل والجمال وأحسها بالنقص وما تفقد ..
فإن كانت هي ضعيفة – فما أحوجها لقوي يشعرها ضعفها بقوته
حتى لو لم تنتظر من ذلك القوي أن يدافع عنها إن أحدق بها خطر ما, وإنما وجود القوة لجانب الضعف - يعني التكامل والانسجام,
كذلك الذي لا يمتلك لبعض مقومات الجمال - فوجود الجميل لجانبه - يعني له التكامل
ووجود الضعيف لجانب القوي - يعني التكامل للقوي, كما هو حال هذه الأوركيدة
كلما أطالت النظر في ذلك المخلوق اكتشفت فيه أشياء تتحول أخيرًا إلى إعجاب, هذه الأشياء التي تكتشفها - هي لم تكتشفها بالصبار حقيقة الأمر بل اكتشفتها بنفسها التي تسكنها فانتبهت لها - فهي عندما كانت تجوب به وتتطلعه - كانت تجوب بداخلها وتتطلع بنفسها - فتبصر نقصها عبر ما أمتلك الصبار فانسجم ما عنده مع ما تحتاج
عاد هاجسها يكلمها من جديد

وكيف ستجمعين بين الرقة والشوكة, كيف ستعانقيه ؟

قالت:
إن كان ملمسي كالحرير - فهل خلق الله هذا الملمس لناعم مثله - يتلذذ به - وهو ممتلك له فاقد لغيره ؟
أم قد جُعلتْ لذتي - بناعم مثلي - وأنا التي تعلم عن النعومة أكثر من أي كائن آخر ؟
ها هي شوكته مزعتني - وأنا ما زلت أتوق لوخزها من جديد - ها هي شوكته كسرت كبريائي وتعبدي لجمالي الذي استعبدني - فأدركت أنني كنت على وهم كبير - حيث ركنت إلى نفسي - وهي بحاجة لأشياء أخر.

بدأت الأوركيدة تبحث عن من يشعرها بضعفها عبر قوته
ويشعرها بقوتها وهي معه ليلبي لها حاجاتها

قالت:
هل حاجاتنا للغير ضعف ؟
إن كان كذلك فكلنا ضعيف
بل كلنا ضعفاء
من ذلكَ الذي يمتلك أن ينتهي بنفسه نحو أقصى محطة للعمر
وهو لا يشعر بحاجة لأنيس ورفيق أو أذن تعي الكلام - وقلب يفقه المعنى - وإحساس يدرك الإحساس - وصدر يتقبلك كما أنت - ينهل من صفائك - ويستر ما شابك من عيوب - وبدون أن تسايره بالتكلف وتحاول أن تخفي عنه نقصك ألذي لا يخلو مخلوق منه ؟

أدركت الأوركيدة أن العيب الذي يترعرع بهوَّة ظلمات الأنفس حتى يوهنها لتصبح أسيرته - سيتحول ذات يوم لغول قاتل يحاول من يحاول جاهدا إخفاءه وكتم زئيره - حتى عن نفسه - وهو لا يكاد يبرحه - يكبر ويترعرع ويتسيَّد عليه كلما حاول أن يخفيه - حتى إذا ما ركن إليه استعبده – وبات يسير دفته ويحركه كيفما شاء .
هي أدركت أن الحاجة تكون قريبة جدًا من التنفيس عن النفس وإفراغ محتواها أو بعضه – لذلك شعرت برغبتها لأن تبوح له عن ما يعتريها وشعرت أنها لا تقوى على إخفاء ولَعَهَا به - فإن أمسك اللسان - وشَتْ العينان, وفضحت السرائر, بل وتحدثت الإيماءات, فمحل كل الحاجات - القلب - وطبيعته أنه لا يقوى على كظم الحاجات طويلا –
يضيق بها ذرعا - أما باقي الأعضاء فتبع له - إن أنبسط بسطت وإن انقبض قبضت – وإن اضطرب اضطربت, فإن عصفت به الريح تخلخلت معها كل الجوارح.

تعبت الأوركيدة كثيرا, وستتعب أكثر فأكثر
خلدت للنوم كعادتها وهي لا تعي ما ينتظرها

أحمد بدر
11/08/2008, 06:38 PM
وفي اليوم التالي.
استيقظت الأوركيدة وهي تشعر بتعب شديد
انتبهت لوريقاتها فذهلت لما رأت
إذ بدأ يشوب نقاء لونها الأبيض بعض صفرة - لم تعلم علامَ هي
فبمجرّد أن تفتحت اوركيدتنا - التفتت مباشرة نحو الصبار
وهو كما هو ما زال على نفس وجومه وسكوته

راحت تناجيه:


فـي صـمتِكَ. أسرار الأمطار !!
يا صبركَ. كم تقـوى الإسرارْ !!
أُدنُ ُ ُ..
وشـوشــني كـالــمحَّارْ
قـُلها..
قلِّدني تاجَ الغارْ
ذُقْني.. وتَحَــسّسْ طــعمَ الــنَّارْ
.
.
عانــقني أحتاجُكَ فيهــا
الدُّنيا أنــتَ بمَن فيهـا
أنتَ الأفرَاحُ بخطِّ الرّاحْ
أنتَ الإصباحْ
وأنا.. بحرٌ مـــلَّ السُكنى
رَكَدٌ.. ما اهتزَّ بـمجـدافٍ
ما دغدغني صـوتٌ دافٍ
أشـتاقُ غِـناءَ فـــقاقيعي
لاعِبـني يـا كــفَّ الملاّحْ


هوت الأوركيدة بحب من طرف واحد - هذا الذي يكون بثقل الجبل وقسوة الصفا الصّماء هذا الطريق الذي فيه ألف مفترق - معلوم البداية وليس له من نهاية - قبلت بحالها ولم تتأفف - ولم تلعن ساعة لقياه - بل بدأت تجود له بكل ما تمتلك, حيث الحب هو أن تتنازل بكل ما هو ثمين وعزيز لمن تحب وأنت تشعر بسعادة غامرة لفعلتك تلك, لمَّا تفقد عزيزًا من أجل أن يُسعد به من هو أعز منه - تلك هي التضحية - فسعادة الحبيب منتهى آمال المحبين وغاية حاجات العاشقين

أمسكت.. وهي تنتظر الصباح - لتسافر نحوه عبر نسماته
الفاتنة كما تعودت فأدمنت - فكانت تتأمل ذلك الأفق البعيد وتقول:
متى تشقشق يا نور الفجر, فتحين ساعة أللقاء
أراكَ تأخرتَ كثيرًا.. أكل يوم تتأخر هكذا ؟

مسكينة الأوركيدة - تحرق دقائقها بل تحرق عمرها لشوق لقياه – بدا الوقت ثقيلا يجرجر نفسه بصعوبة.. كما لو كان يسح بذيله الجبال, بدأ صبرها ينفد, يتفلَّت من قبضتها, وهي ما برحت تتلفت نحو مشرق الشمس تارة - وتعود بنظرتها نحو حبيبها الذي لم يشعر بها للآن تارات.

حينما تنظر نحوه تجده كما هو صامت
تطيل به النظر - وكأنها لم تشبع بعد من رمقه
ثم تشتاق لقربه فتتذكر الشمس – لتلتفت نحو المشرق – عل الشمس باشرت الشروق.

تأخر الفجر كثيرًا - والدقائق تمرّ صعبة على الأوركيدة

وهنا - بان أول خيط أبيض - اختلط بسواد الأفق البعيد معلنا عن وصول الفجر.
بدأت الأشباح التي كانت ترى قبل قليل وفي حلكة الليل
على أشكالها الحقيقية وبدأ كل شيء يستمد حركته ويستعيد روحه - وكأنما كان ميتا فدبت به الحياة من جديد, الطيور ترفرف هنا وهناك, وبدأت عاملات النحل تَلِجُ أمتاك الزهور
ونسمات الصبح ما أقبلت كما كان موعدها من كل يوم
بدأت الأوركيدة تشعر بالمرارة,
وتسأل نفسها ترى أين النسمات التي كانت تحملني صوب حبيبي ؟ لمَ لم تأتي بعد,
وبدأت تتصادم هواجسها في ما بينها, هاجس يقول هي لن تقبل اليوم,
وآخر يقول لا بل سوف تهب عن قريب
وجسد الأوركيدة يزداد وهنا وضمورا,
وبدا من التعب واصفرار اللون ما يعلن عن نذير الشؤم ويطرق ناقوس الخطر.

لم تعلم الأوركيدة المسكينة أن الصفار ألذي اعتلاها
هو نذير الموت وقرب الأجل وأوان ساعة الرحيل, و إلا لكانت تفكر بطريقة مختلفة, لكن حبها للصبار زرع داخلها رغبة جامحة للحياة, فلم تتخيل أن سيقبل يوم من الأيام فترحل عنه دونما أن تنال منه القرب وتشاركه الحياة المتفاعلة بروحين وجسدين قريبين من بعضهما.

خذني إليك
ضمني نحوك
لأوهبك عبيري وأفيض عليك بما ادخرته لكَ من جمال
خذ مني الذي كنت أجد به نفسي
واليوم أجدني أسعد لو ما وهبتك إياه
خذ منّي الروح
وإن شئت الجسد
أنفاسي التي تتشوق
إحساسي الذي يتدفق
آهاتي التي تتمزق
هل سيطول سكوتك كثيرًا ؟
ترى هل تشعر بما أكنه إليك ؟
هل تقرأه بكتاب قسماتي المفتوح
لا عليكَ
حتى لو لم تشعره, كفى أنني أحببتك
أتعلم: بدأت أخاف عليه من هذه الهواجس التي تعتريني فوددت لو كنتَ عنها بعيد – ولكن, ثمة حاجة لقربك - أشعِرُك خلالها أن هنالك من يخاف عليك ويحبك ويتفتت لشوق عناقك
علّ في ذلك سعادتك – فجميل هو أن نجد من يهتم بنا
فيشعرنا أننا لسنا لوحدنا نسكّعُ على أبواب الانتماء نستجدي عطفا - نتوسّلُ لطفاً


دخل الصباح - والنسمات ما دخلت بعد
والأوركيدة تطحن الشَّوان, حتى استسلمت للنوم وهي في مرارة ما بعدها مرارة
غفت على ألم وتنهدت ألف حسرة قبل أن ترقد
وصحت وهي تجد اصفرارها وقد بدأ يلتهم أغلب مساحات نقائها الناصع – وبدأت بعض تجاعيد هنا وهناك تشوه صفاء وريقاتها الحريرية - وهي لا تعي ما الأمر,
صحت - وفيها من الوهن ما يجعلها لا تقوى على الحراك
وما زاد حيرتها وحزنها - غياب النسمات –
فبدونهن لا تستطيع الوصول لجسد الصبار

راحت تفكر
فشهقت بفرحة - وخيمت على محيّاها ابتسامة داهمت شفتيها ألمثقلتين بالحزن والوهن
تذكرت أن اليوم هو موعد وصول ألجنائني - فلطالما عود الأزهار أن يزورها في مثل هكذا يوم من كل أسبوع - وذلك من أجل أن يسقي الحديقة ويعتني بالأزهار من تقليم أغصان شعثاء ومكافحة بعض الآفات المستشرية
قالت:
حينما يبدأ ألجنائني بالرّش سأحتوي بوريقاتي أكبر كمٍّ من رذاذ الماء فيميل ثقله بي نحو حبيبي.
يا لها من فكرة !!
هي جربتها من قبل - عندما كانت تلعب وتمرح سابقا
راحت تبصر للصبار بعينين بانت عليهما آثار التعب والوهن وفيهما من الأمل والحب ما يكسِّر كل صخور اليأس ويقتلع كل آثار الوهن والضعف وهي تقول:
لا بأس عليك سأعانقك اليوم.

ابتهجت حيث رأت ألجنائني قادم مع ولده الصغير
وبدأا بنصب رشاشات المياه هنا وهناك وهي تنتظر أن يفرغا من عملهما بفارغ الصبر, بدأت رشاشات المياه تنثر رذاذها بكلّ أرجاء الحديقة, وبدت البهجة على وجوه كل أجناس الزهور
المختلفة حيث خيم جو من الطبيعة والمياه ما تظمأ له الأعين وتشتاق لمثله الأنفس.
باشرت الأوركيدة بخطتها التي قررت - وراحت تحتوي بين وريقاتها الصغيرة المتعبة رذاذ المياه المتطاير, وبالفعل بدأ عودها النحيل يترنح مائلا هنا معتدلا هناك وهي تحاول جاهدة أن تكرس جلّ ميلانها للخلف حيث وجود الصبار.
أقترب أبن ألجنائني منها وجلس يتطلع بها - فإذا به يصيح –
أبي – من فضلك تعال إلى هنا,
هرع ألجنائني حيث مكان ولده سائلا: ما الأمر يا بني
قال الابن:
ما هذه النبتة ؟
رد الأب:
ألم تسمع يا بني بالمثل الذي يقول
((من أجل الزهر يسقى العليق))
وهوت مسحاته على الصبار فحزه من ساقه ورمى به للبعيد

يا لنوائب الأيام - التي ما انفكت تلطم براحها الوجوه وتعمي العيون - وتدمي القلوب – لتتحول الفرحة نكسة والكلمة سكتة ..

لم تحرك الأوركيدة أي ساكن - سوى أنها ألقت برذاذها الذي جمعت لتعود مكانها الطبيعي وبدون أي حركة تذكر أو أي كلمة تنثر.
ما سرحت الدموع - ما أنَّتْ وما استوعبت المصيبة بعد
ولم تدر إن كانت تعيش كابوسا مريعا أو أنها تعيش واقعا مريرا
تسمَّرت عيناها بأثر ساق للصبار صغير - يبرز من طبقة التربة والصبار ليس مكانه – فمكانه خاليا
أين الصبار ؟
ما الذي حدث ؟
وبعد سويعات
انفجرت الأوركيدة المنكوبة بعويل يدمي القلوب
عويل خافت - من هول الحدث وقسوته
أخيرًا شعرت بما حدث
وها هي دمعاتها تتسابق
سهرت ليلتها بين دمعة ونشيج – ثم تمسك – فتقول:
يا إلهي – لولا جعلته حلم أفيق منه فأجد حبيبي ما زال قربي
تتمنى المسكينة
هيهات للأماني - إن حل القدر فلا راد له
ثم تعود تتفهم أنها الحقيقة ولا غيرها فتنحب من جديد
ظهر القمر كاملا – وراح ضياؤه يقتحم الزوايا ويكشف المستور من أروقة الظلام – وبدا عرق الصبار تحت بصيص القمر بائن قبالة الأوركيدة,
أدركت الأوركيدة أن ذلك الأثر ألذي لا يكاد يبين - سينمو مجددا
وسيعود صبارًا كما كان من ذي قبل – سيعود حبيبها بعد سفرته المفاجئة - وهنا
راحت تكلمه وهي تكفكف دمعتها وتحاول السيطرة على تراتيل صوتها المبحوح:
سأنتظرك – خذ كل وقتك..

سلخت الليل قرب أثره – كما المنكوب ألذي يفترش قبر عزيز له - حتى إذا ما دخل الفجر – وهبَّت نسائمه راحت تدفعها نحو مكان خال تجوب به ولا وجود لمن كان هنا قبل ساعات وهو يملأ عليها حياتها
أغمضت على أمل الانتظار
وهي لا تعي أنها ترقد رقدتها الأخيرة












Thorn field18/2/07

مياسم
11/08/2008, 07:32 PM
فَاتحَةٌ شَهيَّة للقرَاءَة .. أدرَكتُ هَذا من السَّطرِ الأوَّلْ !
أحمد بَدر .. : سأعُودُ للقِصَّة على مَهلٍ .. أَرَاها تَستَحقُّ قِراءَةً عَمِيقَة .. :smile: