المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : :: تحتَ المطــرِ ::


خالد المعمري
23/03/2009, 08:30 PM
مساءُ المطر
.
.
.

تحت المطر ..


يذكرُ صاحبُ البيانِ والتّبيينِ أنَّ لفظَ "المطرِ في القرآنِ وردَ في مواضعِ الانتقامِ ، والعامةُ وأكثرُ الخاصةِ لا يفصلون بين ذكرِ المطرِ وبين الغيثِ" ، ورغم ذلك فالمطرُ ظلَّ حاضراً في حديثِ الناسِ سواءً كان نعمةً أم نقمةً ، فهو أقربُ إلى عواطفهم وأذهانهم ، فيأتي الاستخدامُ مأهولاً بأسرارِ اللفظةِ الأقربِ إليهم .

ويبقى المطرُ لغةَ الحياةِ ، فهو الماءُ المتدفّقُ في عُروقِ الأرضِ ، الواهبُ اخضرار الكونِ ، يرى فيه الأدباءُ روحاً تجمعُ بين قلوبٍ أنهكها الانتظارُ ، ولغةٍ جافةٍ ترفعُ أكفَّها نحو السّماءِ ، فكانوا – وحدَهم - العينَ التي أبصرته من بعيدٍ ومن قريب ، فانبرتْ أقلامُهم تتحدثُ عن علاقاته الحميميةِ . إنّها لغةُ الأقلامِ المتخيلةِ التي تبني من الصّورة فضاءً ممتداً بين المشرقِ والمغربِ ، فرسمتْ اللوحةَ كما رأتها أولَ مرةٍ ، يعبّرُ نزارُ عن عقدته المطريةِ قائلاً :

أخافُ أنْ تمطرَ الدنيا ولستِ معي
فمنذُ رُحْتِ .. وعندي عقدةُ المطرِ

فربطَ نزارُ عقدته مع المطر بالأنثى ، وهي صورةٌ متشكلةٌ في ذات الشاعرِ نتيجة البعدِ والفراقِ ، ويبني السّيابُ من المطرِ أنشودته الكبرى مازجاً بين الخلود والحرية المتحركة في أفق الحياة :

أتعلمينَ أي حزنٍ يبعثُ المطر ؟
وكيف تنشجُ المزاريبُ إذا انهمر ؟
وكيف يشعرُ الوحيدُ فيه بالضياع ؟
بلا انتهاءٍ – كالدم المراق ، كالجياع ،
كالحب ، كالأطفال ، كالموتى – هو المطر!

فجاء المطرُ معبراً عن أسرارٍ داخليةٍ يترجمُها النّصُ في مشهدٍ ثائرٍ ، متقمصٍ دور الحزنِ والوجعِ ، نازفٍ كل إرهاصاتِ الوجودِ . أما محمود درويش فاكتشف بيروتَ من المطرِ الذي رسمَ لوحةً خلابةً على صفحةِ البحرِ ، فجاء اسمُها مشتقاً من الطبيعةِ والجمالِ ، يقول في رائعته بيروت :

من مطرٍ على البحرِ اكتشفنا الاسمَ ، من طعمِ الخريفِ
وبرتقالِ القادمين من الجنوب ،
كأنّنا أسلافنا نأتي إلى بيروتَ كي نأتي إلى بيروتَ ...
من مطرٍ بنينا كوخنا ، والريحُ لا تجري فلا نجري ، كأنَّ الريحَ
مسمارٌ على الصلصال ، تحفرُ قبونا فننام مثل النملِ في القبوِ الصغيرِ


والواقع أننا اليومَ في أمسِّ الحاجة إلى المطرِ ، لا ليروي صحراءنا القاحلةَ فقط ، بل لنتعرفَ على معنى الحياةِ به ، نحتاجُ للمطرِ كما آمنَ به نزار كي نمزقَ عقدتنا الكبرى مع الآخرِ ، ونهدِّم الجُدُرَ التي بنيناها زمناً طويلاً والتي تشكَّلتْ عنها أوهامٌ حجبتْ عنا نورَ الشَّمسِ ، نحتاجُ لمطرِ السَّيابِ حتى نعلنَ عن ثورةٍ كبرى على تقاليدَ مزيفةٍ ألبستْنا التقوى والصلاحَ ، والانخراطَ في سلكِ الصالحين دون أنْ ندوِّنَ صحيفةَ عبورنا للماءِ المقدَّسِ ، نحتاجُ لمطرٍ درويشيٍّ كي نتعرفَ على ذواتِنا من غيرها ، عن تجربتِنا الحقيقيةِ في الحياةِ ، ودورنا فيها ، كي نتعرَّفَ على مدينتنا الأدبيةِ التي نطوفُ عليها سبعاً دون أن نطلقَ عليها اسماً يجعلُ منها مدينةً عظمى فاضلة ، نحتاجُ لكلِّ أمطارِ الكونِ لكي نفرِّقَ بين معنى القُبلةِ والقِبلةِ .

المطرُ علاقةُ السماءِ بالأرضِ ، وعلاقةُ النفسِ بالبهجةِ والسّرورِ ، وإذا استلقتْ كتاباتُنا تحتَ المطرِ فذلك لأننا نؤمنُ بقداستِهِ في بناءِ زرقةٍ معماريةٍ للنصِ ، وإذا رقصتْ على أنغامه فذلك لأننا على يقينٍ أن آخره اخضرارٌ يفضي إلى المعنى المتخيّل ، فَتَحْتَ المطرِ تسكنُ أقلامُ تجدُ لها مأوى هناك ، جازمةً أنَّ بعد الظّمأ ارتواءً ، وبعد الإبحارِ وصولاً لجزيرةٍ نائيةٍ .

إنها رحلةٌ رائعةٌ أنْ يجدَ الكاتبُ في المطر ثوباً واسعاً يَعْبُرُ من خلاله أجواءَ الحياةِ ، واضعاً نُصْبَ عينيه عاطفة مفقودة ، أو رحلة نسيها في أحد مدنه البعيدة ، أو طفولة خالدة ، حينها لن يترددَ على مسامعه سوى كلماتٍ كان يرددُها في طفولته لحظة صخبٍ : " مطر .. مطر .. مطر "



خالد علي المعمري


" المقال نشر بجريدة عمان ، ملحق شرفات الثقافي "

عبد العزيز الجرّاح
24/03/2009, 11:18 AM
خالد ،
صباح المطر .. تحت المطر .. في إملاءات المطر :)

هذا المقال رائع، بل مدهش، بل هو أكثر من ذلك .. فأنت هنا تتحدث عن المطر
والطهر .. عن الماء والرواء والنقاء .. عن لغة الحياة ، الواهب الكون اخضراره
كما ذكرت أعلاه.
بل وَ أضيف هو لغة الأدب وَ الأدباء .. وَ روح الشعر وَ الشعراء.
وحدها "رائحة المطر" التي تبعث على الفرح وَ الأمل وَ الحب وَ الحياة وأشياء
أخرى كثيرة و جميلة.

أتعلم يا خالد .؟
كثيرًا ما أفتخر كون هذا الوطن الجميل بكم يحمل اسم المطر.
شكرًا أن أهديتنا المطر تحت المطر في إملاءات المطر.
وشكرًا لـ إملاءات المطر التي ينتمي إليها " خالد المطر" :)

ودي وجل تقديري
عبد العزيز الجرّاح

فتحية الشبلي
25/03/2009, 10:12 PM
السيد الفاضل
خالد المعمري
/
جميل جدا ماتفضلت به
من كلمات تشبه المطر الذي ينعش النفوس والقلوب معا
تحت المطر
أسم يتناغم مع هذا المقال قلبا وقالبا

المطر

/‏ ذلك الشئ الجميل الذي يفتح أمامنا بواباب العبور الي عوالم الصفاء والنقاء والإنتعاش والدفئ
والأخضرار والحياة والفرح والسرور والتفاؤل والبشر
فضلا عن ذلك فإن للمطر لغته الخاصة والحميمية والتي يستشعرها الأدباء والشعراء والمحبون
فيعبرون من خلالها علي مكنوناتهم ومايختلج بدواخلهم من مشاعر ندية وطرية بندواة وطراوة المطر

سيدي الكريم
/
ليس هناك شيئا بإمكاني أن أضيفه علي هذه المقالة الرائعة والمنعشة
فقد أبدعت
وجميل ورائع أن نكون تحت المطر
وهنا تحت
إملاءات المطر

لك مني التقدير والأحترام
ودمت ماطرا
تحاياي

أسامة بن محمد السَّطائفي
30/03/2009, 08:13 PM
*

خَـالـد ، سَـلامٌ عليك وَ رحمـةُ اللهِ وَ بركاتهُ ،

/

يا الله . كمِ انتعشت عينايَ وَ هيَ تقرأ بشرهٍ تلكَ اللَّـوحَـةَ المطريَّـةَ الفائضَـة ،

لطالما كانَ المَطـرُ يا أخِي - وَ لا يَـزالُ - إرهاصاً للعشَّاقِ وَ منئًى للمُغيَّبِيـنَ وَ الغُـرباء وَ بيتاً لا يُمكنُ هدُّهُ لمعدومِي الأوطَان ،

لقد أضفتَ الكَثيرَ منَ الجَمالِ للجَمالِ الَّذي يُحيطُ بالغَيثِ ، وَ اعلم بأنَّنا ما زِلنا تحتَ مطركَ المُهْـرَوْرِقِ نتبلَّلُ ،

/

شَرفٌ لِي أن أقرأ لكَ هذا السُّمُـوَ وَ البَّهَـاء ،

تَحيَّتِي وَ خالصُ التًّقدِيـر :flower2:

سودة الكنوي
31/03/2009, 02:28 AM
هذا الجمال يحتاج عودة لقراءة أكثر تركيزاً

خالد المعمري للأدب عندكم نكهة مميزة أيها العمانيون!!

لله درُّ أدباء السلطنة..

خالد المعمري
02/04/2009, 10:50 PM
الجراح ، أيها الرائع ..
المطر طُهْرٌ ، وحلمٌ ، وحبٌ
متى ما رسمناه لوحةً جاءنا بذلك ..
شكرا لك على أن جمعتنا في المطر .... ودي



فتحية ...
مرورك أكبر إضافة لمقالي .. جميل أن تقرأي حروفه .. وتمري عليه مرور الغيم إذا زار الأرض القاحلة
تحاياي



أسامة ...
الشرف أن أصحو وأجد آثار أقدامك على هذه الصفحة ..
كن تحت المطر فللمطر نكهة رائعة .. نكهة لا يدركها إلا الرائعون
شكرا



سودة ...

أنتظر عودتك المركزة لخربشاتي .. وأدباء عمان يكنون لكم كل الاحترام والتقدير
احترامي الفائق

عبد العزيز الجرّاح
10/08/2009, 04:49 PM
خالد،

المطر و نحن نتساءل عنك .. تحت المطر ..
الإملاءات تفتقدك وحرفك !

صديقي،
أعلم أنها رسالة الماجستير من تعيقك عنا
ولكنه الشوق لك ولأبناء قلمك.
فقط آمل أن تكون بخير، مع الدعوات لك
بالتوفيق.

ودي وتقديري