ريم محمد
16/06/2009, 09:51 PM
أسير بخطى متشبثة بالحياة , و رأس ابني الصغير تتأرجح في كل مرة على كتفي, و لعابه يبلل عباءتي .. أغذ الخطى .. بحثا عن لقمة .. تسد أفواه صغاري .. و تسد شيئا من جوعي .. فالورقات التي يرسلها راضي بعد بضعة شهر .. لكي تفك شيئا من ضيقنا ما عادت تكفيني و أبنائي , و لا أمه و أبناءها ..!
فما أصعب العوز و الحاجة .. و خصوصا إن كانت الحماوات كأم راضي ..! فهي تستولي على الأوراق .. و تذهب مع ابنها "مرتضى" ليبدلونها عند أحد الكبار .. ثم ترمي لي بالقليل .. و تحتفظ بالكثير , و حينما ضاقت بي حبائل الدنيا , و رأيت أن صمتي لا يجدي و لن يجدي .. صحت بها ..
- هاتِ النقود ..؟!
- أي نقود يا امرأة..!
- نقود أبناء راضي ..
تضع يدها على خدها و تقول مفتعلة :
- ما بقي من الدراهم شيئا .. وا حسرتي على ولدي .. لكم يشقى من أجلنا ..!
"إيه يا مرضية .. و على فقرنا تزيدين ألمنا و حاجتنا ..!"
مرضية .. أو عمتي مرضية "عجوز" أكلت سني عمرها أكلا , و ظفرت شعرها شيبا .. مخشوشنة اليدين .. و متغضنة الوجه .. ليست بالجميلة ..شرسة وقت حاجتها للشراسة ..
تجيد التمثيل و التلاعب بالمشاعر .. مسكين راضي - لا أعلم الحكمة من وراء اختيارها أسماء الرضا – يصدقها .. و يظن أنها تنثر الدراهم على رؤوس صغاره ..! يا للبؤس و الشقاء .. ليته فقط يرسل "العصفور" ليرى شقاءنا ..!
"إيه .. الرزق على الله" , و إلا مالذي سيجعلني أرضى بتلك النظرات القبيحة من أم البنين - التي لم تنجب أصلا - و نزقها مني .. و من ابني , فليلة أمس .. و حينما كنت أمسح أرضية الحجرة الأخيرة في بيتها .. التفت "عبد السلام أفندي" ناحيتي .. أظنه كان سيطلب مني قدح ماء .. فلا مدينة ماء ترويه ..! عندها صرخت بي أم البنين .. و طردتني بعد أن رمت الدراهم في وجهي بكبر .. آهـ .. لقلوبنا نحن الفقراء ..! لكني أشعر بها .. فهي ستكون متوحشة .. أتراها سترضى بأن ينظر أحد إلى زوجها .. فقبحا للنساء اللاتي يغرنّ ! و كذلك اللاتي لا ينجبنّ! .. لكني لم أكن أحس بشيء من الغيرة تجاه راضي .. هل لأني موقنة بأن لا أحد سينظر إليه .. حتى من بنات الفقراء أمثالي ..! و لن يعير أحد وجهه لتحديق في وجه راضي المليء بالكدمات و الآلام ..
"الأبواب مؤصدة .." و القرية مكتظة .. بالعربات ..فكل من جمع درهم على آخر ركض به في حرز لكي يجلب عربة تزيد القرية ضيقا ..! فهذا "متولي أفندي " جلب لنا عربة حمراء في جانبها الأيسر صدأ .. و جعل لعدة أيام يقودها ذهابا و إيابا .. و يضرب على مقودها فينبعث صوت كالمزمار .., و أطفال الفقراء و من بينهم أطفالي يركضون خلف عربته ..! و هم يصيحون "عربة ..عربة ..عربة.."
لكن بعد شهر ركنها بخيبة في الشارع خلف بيته ..!
"إيه .." هل كان سيندم لو تزوج بها .. زوجة ثالثة ..! فرجل مثله تتمنينه النسوة ذوات الحسب ..على الرغم من تهوره .. و شدة غضبه .. إذا ما حنق .. , ماذا لو خطب صفية .. التي ترمقني الآن بنظرة شفقة من خلف" الروشن" تحسب أني لا أراها .. لكني أراها و هي تجلس و أمامها الشاي المنعنع .. و تحتسيه بهدوء في كوب مذهب .. و في عينها ألف دمعة .. فتغتصب الصمت لكي لا تسفكها ..
"إيه .. يا شيخة البنات .. إيه يا صفية .." و الله لو أن أمي أنجبت أخا يستحقك لأتيت لأخطبك له .. و أعمل الليل مع النهار لكي أجمع مهرك .. و أزفك و أنا "أزغرد " و أغني القصيد ..!
فصفية ليست كأم البنين .. بل هي شديدة الحنان .. حينما أكون في بيتها .. تأخذ ابني عباس الصغير .. و تلاعبه .. و تطل به على شوارع القرية من خلال الروشن ..! و تقبله .. يوما رأيتها تضمه .. و تبكي .. يومها بكيت في المطبخ .. و أقسمت على أن أخبر راضي عنها ..
"إيه يا صفية ..! الرجال عميت عيونهم ..!"
و ليس كلهم يستحق نظرة عينيك الهادئتين .. الموشاتين بالصمت و الصبر , و قلة الحيلة .. فهل "كاسب" أبو الكرش , صاحب مقهى السعادة .. "يستحقها .. ههه " أي سعادة يا كاسب ..؟ هل هي في القهوة التي تصبها قبل أن تغلي جيدا .. و تبيعها لمن يجلس على طاولاتك البالية .. أم في الشاي المتبقي من شاي الأمس ..! أم في "الأراجيل " التي تشعل بها صدور الرجال .. في ساعات الليل المتأخرة ..
"إيه تبا للرجال الحمقى أمثالك ..؟"
فأين " العمدة" عن مثل هؤلاء .. أين هو عن الشباب المتسكعين على الطرقات .. ؟! أما يرى ..! أما أن " العمودية " أعمت بصره و بصيرته "
و الله لا أنسى حينما جثمت عند قدميه أتوسل .. بأن يوظف "راضي" عنده .. أو يمنعه من السفر .. فرمقني بنظرة غريبة , و قال لي " اذهبي .. و سأفكر في الأمر " و طال تفكير العمدة .. و سافر راضي .. و حينما عدت لأطرق باب بيته .. خرج لي الحارس ليشتمني .. بأقذع الشتائم ..
" الله للفقراء .. و هو بيني و بينك ..!"
"إيه .. أجمل للمرء أن يغمض عينيه و يسير في دربه صامتا .. لكيلا يموت غيضا و كمدا .. رباه لقمة حلال أسد بها أفواه صغاري .."
فما أصعب العوز و الحاجة .. و خصوصا إن كانت الحماوات كأم راضي ..! فهي تستولي على الأوراق .. و تذهب مع ابنها "مرتضى" ليبدلونها عند أحد الكبار .. ثم ترمي لي بالقليل .. و تحتفظ بالكثير , و حينما ضاقت بي حبائل الدنيا , و رأيت أن صمتي لا يجدي و لن يجدي .. صحت بها ..
- هاتِ النقود ..؟!
- أي نقود يا امرأة..!
- نقود أبناء راضي ..
تضع يدها على خدها و تقول مفتعلة :
- ما بقي من الدراهم شيئا .. وا حسرتي على ولدي .. لكم يشقى من أجلنا ..!
"إيه يا مرضية .. و على فقرنا تزيدين ألمنا و حاجتنا ..!"
مرضية .. أو عمتي مرضية "عجوز" أكلت سني عمرها أكلا , و ظفرت شعرها شيبا .. مخشوشنة اليدين .. و متغضنة الوجه .. ليست بالجميلة ..شرسة وقت حاجتها للشراسة ..
تجيد التمثيل و التلاعب بالمشاعر .. مسكين راضي - لا أعلم الحكمة من وراء اختيارها أسماء الرضا – يصدقها .. و يظن أنها تنثر الدراهم على رؤوس صغاره ..! يا للبؤس و الشقاء .. ليته فقط يرسل "العصفور" ليرى شقاءنا ..!
"إيه .. الرزق على الله" , و إلا مالذي سيجعلني أرضى بتلك النظرات القبيحة من أم البنين - التي لم تنجب أصلا - و نزقها مني .. و من ابني , فليلة أمس .. و حينما كنت أمسح أرضية الحجرة الأخيرة في بيتها .. التفت "عبد السلام أفندي" ناحيتي .. أظنه كان سيطلب مني قدح ماء .. فلا مدينة ماء ترويه ..! عندها صرخت بي أم البنين .. و طردتني بعد أن رمت الدراهم في وجهي بكبر .. آهـ .. لقلوبنا نحن الفقراء ..! لكني أشعر بها .. فهي ستكون متوحشة .. أتراها سترضى بأن ينظر أحد إلى زوجها .. فقبحا للنساء اللاتي يغرنّ ! و كذلك اللاتي لا ينجبنّ! .. لكني لم أكن أحس بشيء من الغيرة تجاه راضي .. هل لأني موقنة بأن لا أحد سينظر إليه .. حتى من بنات الفقراء أمثالي ..! و لن يعير أحد وجهه لتحديق في وجه راضي المليء بالكدمات و الآلام ..
"الأبواب مؤصدة .." و القرية مكتظة .. بالعربات ..فكل من جمع درهم على آخر ركض به في حرز لكي يجلب عربة تزيد القرية ضيقا ..! فهذا "متولي أفندي " جلب لنا عربة حمراء في جانبها الأيسر صدأ .. و جعل لعدة أيام يقودها ذهابا و إيابا .. و يضرب على مقودها فينبعث صوت كالمزمار .., و أطفال الفقراء و من بينهم أطفالي يركضون خلف عربته ..! و هم يصيحون "عربة ..عربة ..عربة.."
لكن بعد شهر ركنها بخيبة في الشارع خلف بيته ..!
"إيه .." هل كان سيندم لو تزوج بها .. زوجة ثالثة ..! فرجل مثله تتمنينه النسوة ذوات الحسب ..على الرغم من تهوره .. و شدة غضبه .. إذا ما حنق .. , ماذا لو خطب صفية .. التي ترمقني الآن بنظرة شفقة من خلف" الروشن" تحسب أني لا أراها .. لكني أراها و هي تجلس و أمامها الشاي المنعنع .. و تحتسيه بهدوء في كوب مذهب .. و في عينها ألف دمعة .. فتغتصب الصمت لكي لا تسفكها ..
"إيه .. يا شيخة البنات .. إيه يا صفية .." و الله لو أن أمي أنجبت أخا يستحقك لأتيت لأخطبك له .. و أعمل الليل مع النهار لكي أجمع مهرك .. و أزفك و أنا "أزغرد " و أغني القصيد ..!
فصفية ليست كأم البنين .. بل هي شديدة الحنان .. حينما أكون في بيتها .. تأخذ ابني عباس الصغير .. و تلاعبه .. و تطل به على شوارع القرية من خلال الروشن ..! و تقبله .. يوما رأيتها تضمه .. و تبكي .. يومها بكيت في المطبخ .. و أقسمت على أن أخبر راضي عنها ..
"إيه يا صفية ..! الرجال عميت عيونهم ..!"
و ليس كلهم يستحق نظرة عينيك الهادئتين .. الموشاتين بالصمت و الصبر , و قلة الحيلة .. فهل "كاسب" أبو الكرش , صاحب مقهى السعادة .. "يستحقها .. ههه " أي سعادة يا كاسب ..؟ هل هي في القهوة التي تصبها قبل أن تغلي جيدا .. و تبيعها لمن يجلس على طاولاتك البالية .. أم في الشاي المتبقي من شاي الأمس ..! أم في "الأراجيل " التي تشعل بها صدور الرجال .. في ساعات الليل المتأخرة ..
"إيه تبا للرجال الحمقى أمثالك ..؟"
فأين " العمدة" عن مثل هؤلاء .. أين هو عن الشباب المتسكعين على الطرقات .. ؟! أما يرى ..! أما أن " العمودية " أعمت بصره و بصيرته "
و الله لا أنسى حينما جثمت عند قدميه أتوسل .. بأن يوظف "راضي" عنده .. أو يمنعه من السفر .. فرمقني بنظرة غريبة , و قال لي " اذهبي .. و سأفكر في الأمر " و طال تفكير العمدة .. و سافر راضي .. و حينما عدت لأطرق باب بيته .. خرج لي الحارس ليشتمني .. بأقذع الشتائم ..
" الله للفقراء .. و هو بيني و بينك ..!"
"إيه .. أجمل للمرء أن يغمض عينيه و يسير في دربه صامتا .. لكيلا يموت غيضا و كمدا .. رباه لقمة حلال أسد بها أفواه صغاري .."