محمد السالم
22/06/2009, 04:27 AM
قدّمت أوراقي الثبوتية وورقة الطائرة قبل موعد الإقلاع بساعة ونصف.
وطلبت من مضيفة ترتيب المقاعد أن تمنحني مقعدًا في أحد الجوانب . وأنا يحدوني الأمل أن يبتسم لي الحظ بثلاثة مقاعد لم يتم حجزها . أكوّم بها جسدي بعد الإقلاع .
دخلت من بوابة ردهة المغادرين وتفاجأت بأعداد هائلة من البشر لا يفصلني عنهم إلا حائط من الزجاج .غادون عكس خطواتي .في خطوات متسارعة أوشك بعضهم على الركض !
لاحت عن يساري لافتة توضّح بأن هُنا ردهة ركاب الدرجة الأولى.
قادني الفضول لمعرفة بماذا تختلف عن ردهة المسافرين الأخرين ؟
أعترض طريقي شابٌ لو أردت أن أتمنى لنفسي صورة فلن أزيد عليه .
حَيّاني بلباقة وأبتسامة حمدت الله أني لست أنثى .
طلب مني ورقة الصعود فأعطيتها له فأبتسهم أبتسامة دون سابقتها وقدم لي أعتذاره .
وكأنه أشار لي بلباقة أن هذه الردهة ليست لأمثالك . بعد إن سلّط نظرة فاحصة على حقيبتي التي أحملها في يدي اليسرى .
تظاهرت بأني لم أقرأ اللافتة بعد أن أحسست بغصة وتركته قائما .
توجهت إلى ردهة أمثالي وما أن وقعت عليها عيناي حتى أحسست بأنقباض .
طوابير من العمالة على بوابات الخروج ؛ وأناس يتحدثون في الهواتف بأصوات عالية .
منهم من يسحب من الحقائب ما تنؤ بحمله الجمال! ومنهم من يحتضن آلة تسجيل مزدوجة كادت أن تكون تلفازاً وأناساً تمددوا على المقاعد المستطيلة وراحوا في سبات عميق .فلم يعد لسواهم -مفحص قطاة- . وأطفال أحالوا أحد أبواب الزجاج المتحركة إلى لعبة شدّ الحبل . والضجيج يذكرني بباعة سوق السمك .
تجولت بصعوبة وتفحصت العديد من الوجوه وتسمّعت للعديد من اللغات
أجريت بعض الأتصالات بعد اطلاعي على التعليمات التي في ظهر الورقة بأنه يجب على كل المسافرين أغلاق هواتفهم الخلوية أثناء الرحلة حرصا على سلامة الرحلة . وتذكّرت في أحد الرحلات من مطار امستردام أنهم عرضوا علينا امكانية الأتصال بمبلغ لم أعد أتذكره لمن أراد ذلك .
حاولت أن أحتسي كوبا من الشاي ولكن كأن "الكفتيريا" فتحت في أحد معاقل مجاعة الصومال . برهة من الزمن وأنا أتابع المنظر العجيب خصوصا تلك المرأة التي تحمل على ذراعها اليمنى طفلاً مازال في المهد وعن يمينها وعن يسارها جيش من الأطفال المتكدسة أيديهم وأعينهم في حقيبتها اليدوية ويطالبوها بالمزيد من النقود .
الرجاء من ركاب الرحلة رقم (...) التوجه إلى البوابة رقم (9)
أخذت موضعي في الدور . وبدأ اليأس في حالة مدّ إلى نفسي من العثور على ثلاثة مقاعد أكوّم بها جسدي . لكثرة من دخلوا في طابور بوابتنا . امتلأت حافلة النقل بالركاب مما جعل الوقوف مُحتّما .
لفحت الوجوه ونحن نترجل من الحافلة عند سلّم الطائرة سموم قيظ الخليج ؛
فتسارعت الخُطى في الصعود على سلّم الطائرة
ونأت أحداهن بحمل حقيبتيها وجالت ببصرها عند أولى السلالم فلم يعيرها أحد أي أهتمام . حتى أنها أستعطفت أحدهم فشاح بوجهه وصعد . حقدتُ عليه بصدق .
عرفت طريق مقعدي . بعد أن أرشدتني اليه إحدى المضيفات التي لا تنقصها الرشاقة والجمال .تحدث قائد الرحلة مع الركاب عبر الراديو وأخبرهم أن الرحلة تربو على ست ساعات ونصف الساعة من الطيران . وتمنى لهم رحلة سعيدة وأنا كذلك تمنيت ولكن يبدو لم تتحقق أمنيتي .
كان مقعدي محاذيا للنافذة وبجانبي امرأة علمت فيمابعد أنها من "نيوزيلندا" ؛ وذاهبة إلى مؤتمر "تآخي الشعوب ضد مرض الايدز في روما" !.
تحدثت لي عن نشاطهم ومنحتني بعض الكتيبات وبعض الصور من مدينة "اوكلند" التي لم أزورها في حياتي . وبعد معرفة المسافة تضرعت أن لا أزورها .
تقدمت احدى المضيفات من المرأة النوزيلندية وهمست في أذنها .هزت المرأة رأسها وألتفتت نحوي وقالت: أعتذر منك هناك رجل يريد الجلوس بجانبك وسوف أتبادل معه المقاعد حسب ما أخبرتني المضيفة .
ماذا يريد منّي هذا الرجل هل في هذه الرحلة أحد أعرفه ولم تقع عيني عليه!(قلت ذلك في نفسي).
شكرتها للطفها معي وعلى ماقدمت لي من معلومات عن بلدها وعن نشاط جمعيتهم وعلى الكتيبات التي أهدتهم ليّ . أقبلت نفس المضيفة السابقة وفي أثرها رجل في حسباني انه شارف على العقد الخامس . حيّاني الرجل وبادلته بمثلها .
ثم قال هناك عائلة لم يرق لهم جلوسي بجانبهم فطلبت من المضيفة أن تبحث لي عن مقعد آخر فوقع الأختيار هنا لا يكون وجودي سبب لك شيئاً من الضيق ؟. أو أني قطعت عليك خلوتك مع هذه المليانة الشقراء وضحك .
أحسست بأنقباض من جرأته مع رجل لم يمض معه إلا أقل من دقيقتين .
طمنته بأننا اليوم أخوة سواء شئنا أم أبينا .ثما أني أحب الحديث مع من خط الشيب في مفارقهم .
التفت نحوي ثم قال لا تغتر بالشيب فأنا قلبي نابض بالشباب والحيوية أكثر من أي وقت مضى .
إن لم يعش الإنسان حياته عاشها غيره ...لا أعلم كيف ساق هذا القول ! هل الرجل يؤمن بتناسخ الأرواح ! أو أنه يردد قولا لا يعرف له حقيقة . وهذا ما اتضح لي بعد ذلك . تحدث الرجل معي في أشياء عدة حتى أنه عرّفني على اسمه الكامل ووجهة عمله وكم لديه من الأولاد والبنات وكم مرّة سافر إلى هذا البلد الذين متجهين له وعن مغامراته التي يستحي منها المراهقين . ثرثر معي في أشياء كثيرة .
حتى أني لم أعد أتذكّر ماقال قبل خمس دقائق من كثرة ماسرده بعدها . أشياء تتقبلها النفس على مضض وأشياء تشمئز النفس منها بالخصوص من رجل الشيخوخة إليه أقرب من أي شيء أخر .
قدم لنا مجازا وجبة خفيفة .تذكرني بوصفات الرجيم
نهضت وذهبت إلى عربة الكتب والصحف التي بمحاذاة بوابة الدخول لمحتها وأنا أدخل الطائرة . تحدثت مع شاب تركي يتصفح الجرائد . أحسسني الحديث معه بالفارق الشاسع بين الحديثين. الكهل المراهق والشاب الواعي . أحسسنا بعدم توازن في الطائرة فطلب منا القائد العودة إلى مقاعدنا وربط الأحزمة فنحن نمر بشحنات هوائية .
رجعت سريعا إلى مقعدي مثل من كانوا مثلي . وما ان جلست وربطت الحزام حتى لمحت عيني على طاولة صاحبي علبة "هنكن" .
أحسست بأنقباض أشد مما مضى . تناول كوبا من "البلاستيك" ودلق به بعض مافي العلبة وقدمه لي . فقلت بصوت حازم أنني لا أشرب المحرمات وخصوصا وأنا بين السماء والأرض .
فأطلق ضحكة مدوّية ربما أنها أزعجت ركاب الدرجة الأولى وأنا يحلولي ذلك .
بدأت أرفع صوتي بالتهليل لأحساسي بالخوف مما نحن فيه الطائرة غير مستقرة وصاحبنا يوزع "الهنكن" بالمجان .
حقدت على المرأة النيوزيلندية . هدأت الطائرة وسرّحنا الأحزمة . وقمت بجولة في الطائرة . لعلي ألتقي بالشاب التركي أو أحدا نحوه . ولكن لا حراك فالركاب مابين نائم ومتابع لفلم رعاة البقر الذي تعرضه شاشة الدرجة الثانية .
ما أن رجعت لمقعدي إلا وقد أصبح أمام صاحبي أربع علب من نفس العلبة السابقة .
دارت عربة السوق الحرّة بين الركاب . ونهض صاحبي وأتى يحمل زجاجة من "الويسكي" المعتق على حسب قوله . ابتاعها بمئات الدولارات .
وتحدث لي عنها : في السوق الحرّة نجدها نقيّة بالفعل أما في المدينة وفي الفنادق فأنها مغشوشة . وهم من المطار يسمحوا لنا بتمرير واحدة او أثنتان في بعض الأحيان ويدفعوننا عليها ضريبة . تشاغلت عنه بقراءة خبر في إحدى الصحف التي جلبتها من العربة المركونة بجانب المدخل .
مفاده :ستنتعش السياحة البينية في الدول العربية بعد انتشار "انفلونزا الخنازير" في الدول الغربية بشكل مخيف . وفي الصفحة المقابلة "انفلونزا الخنازير تغزو العالم العربي بعد الاعلان عن 42 حالة في اليومين السابقين في بعض الدول العربية" .
أخذت سدادة العيون التي يوفرها الطيران للمسافرين إذا رغبوا في النوم .
وليس رغبة بالنوم فحسب بلّ لعلها تجدي نفعا في التشبيه على هذا الشيخ المراهق بأني نائم .
كأنها أخذتني سِنة وأنا اتظاهر في الأساس . حتى رفع صاحبي عقيرته بالغناء .
بألوان شتى، شيء من التراث وآخر من الحديث وعرّج على الأغاني الوطنيّة لبلده وبدأ يتغنا بمجد بلده وعظمتها وبعض الأحيان يسرد أشعاراً بين الفصيح وبين الشعبي . علمت معها بأن الرجل قد دخل في عالم خارج نطاق علبتنا الطائرة .
قام بشتم الأحياء والأموات .وأنا على حالتي متظاهر بأني نائم اريد النظر إلى ساعتي لعل المسافة اقتربت ولكني أخشى أن يرى مني حركة ثم يدخلني في جوّه .
استدعى إحدى المضيفات بعد أن لكزني بكوعه لا أعلم هل عن قصد أو بدون قصد .
طلب منها كأساً وثلج . اعتذرت المضيفة بلباقة .
فمد يده إلى صدرها الذي يبدو منه أكثر مما حجب وكاد أن يتلمسه أو أنه بالأحرى تلمسه .
فصرخت المرأة وتراجعت في الممر الذي بين المقاعد . نهض في أثرها وتكوّم في الممر وهو يلعن ويشتم ولا أعلم هل يشتم المضيفة أو يشتم نفسه . يثرثر بشتائم لم يتضح لها مغزى .
نهض ورجع لمقعده وهو ينظر إلي ويقول هؤلاء بنات (...) ثم تناول احدى العلب وأجهز عليها بنفس واحد .
رجعت لنا المضيفة بصحبة اثنين من المضيفين وأشتد الكلام بينهم فحاول صاحبنا لطم أحدهما . فصده الرجل . وكاد أن يضربه لولا أني قفزت ومنعته وكذلك منعه صاحبه من ضربه . وقلت الأجدر بك ان تقدر حالة هذا الكائن فأنتم من سهل له أن يصل إلى هذه الحالة . قال لي أقنع صاحبك أو صده عن مايفعل داخل الطائرة وليس هو أول من يشرب فالنصف من الركاب شربوا ولم يفعلوا مثله.
:بعد الوصول لنا معه حساب . قلت لا يعنينني حسابكم معه ثم أنه ليس بصاحبي بل عميلكم وأنتم من نقله ومسؤولون عنه .
لخوفي على الرحلة وليس خوفاً على الكهل المراهق . أقنعته أن يربط الحزام لأننا قد اقترب لنا الوصول ويجب علينا الجلوس في مقاعدنا . امتثل للأمر ولا اعلم كيف أمتثل وهو بهذه الحالة المزرية حقا .
بعد ساعة والطائرة تسلك الهبوط تدريجيا الضغط يهبط من رؤوسنا مما حدى بالكثرين وأنا أحدهم بوضع أصابعنا في أذاننا .
ما أن هبطت الطائرة حتى طلب القائد من كافة الركاب عدم مغادرة المقاعد .
ساد الوجوم في داخل الطائرة للطلب الغريب ولم يسبق لي على كثرة أسفاري أن سمعت بمثل ذلك . ولم يقطع ذلك الوجوم إلا صوت أستفراغ صاحبي مافي معدته وشتائمه المتكررة التي حتى أنا لم أسلم منها .
ماهي إلا دقائق خمس حتى فتحت بوابة الطائرة ودخل منها خمسة رجال من الشرطة . دلّهم أحد المضيفين إلى مقاعدنا .
تقدموا منا وأخذوا أوراقنا الثبوتية ثم اقتادونا إلى بوابة الطائرة وأنا أحاول أفهامهم أني ليس لي ناقة ولا جمل ولا حتى دجاجة في صحبة هذا الكائن . ولكنهم طلبوا مني الصمت بحزم .
جلت ببصري في المقاعد ووقعت عيني على المرأة النيوزيلندية فشتمتها في نفسي .
وخشيت أن يراني الشاب التركي فيتحاقرني .
لم ينزلونا مع الخرطوم الذي يعتاد الركاب النزول معه بل أنزلونا مع سلّم إلى غرفة كبيرة وأغلقوا الباب من خلفنا وصاحبي المراهق مازال على حالته يثرثر ويشتم ويستفرغ .
ذهبوا به على ما اظن إلى دورة المياة لأنه قد بلل ملابسه رأيت ذلك بعد ما سار أمامي . وأتمنى أن لا يرجعونه ليّ.
جلست على كرسي عن يمين الباب . أتى رجل من الداخل وأشار علي بالقيام .
أمتثلت الأمر . أفتتح كلامه بشتيمة . قلت على مهلك يا رجل لِمَ تشتمني . فصاح بي أصمت يا (...) قلت لن أصمت ماذا فعلت حتى تشتمني ؟ فهددني بالحبس .
وتحوّل فمه إلى منجنيق من الشتائم . ظلّيت صامت . قال لِمَ لا ترد قلت أرد على ماذا ؟ على الشتائم ؟ أنني أترفع عن هذا الخُلق ثما أني لا أعلم لِمَ أنا هنا ؟!
ألا تعرف لِمَ أنت هنا ؟ وهل تعرفوا من أنتم أصلا ؟ لا تعرفون إلا الجمال والصحراء . :قلت الصحراء لم تعلمنا الشتائم ولا الخلق الرخيص ولا سوء الأدب .
تشتمني يا أبن (...) قالها بصوت ضج المكان .
قلت : لم أشتمك وحتى لو أردت ان أشتمك لن إصل إلى عشر ماشتمت نفسك به . إن من يشتم الناس لا يشتم إلا نفسه .
سحب الكرسي ودخل إلى بوابة خلفه وتركني قائما . حاولت أن أفتح هاتفي ولكنه لا يلتقط أية أرسال . أحسست بالكآبة بالفعل أخذت بجريرة غيري ورأيت وسمعت من سوء الخلق مالم أسمع به من قبل . بعد ربع ساعة فتح الباب الداخلي ودخل منه ثلاثة رجال يحملون أوراقي الثبوتية . تلى أحدهم اسمي الرباعي المكتوب في جواز سفري، ضحك وقال: حتى الأسماء لديكم فائض فيها وضحك الأثنان الآخران .
قال أحدهم متهكما : أنه البترول يحصلون به على كل شيء حتى أسمائهم . فتعالى ضحكهم .
قلت : إنما أنا ضيف لديكم وليست هذه من شيم العرب مع ضيوفهم .
فصرخ أحدهم ضاحكا قائلا: ضيف!!!
إنما أنت ضيف البترول، أرني مامعك من نقود . قال آخر نقوده معطرة بريحة البترول . وضحك الثلاثة بصوت عال .
ثما أعادوا عليّ مارواه صاحبهم السابق من رواية البدو الرحل الذين وجدوا البترول وتحولوا إلى أصحاب ثروة بين عشية وضحاها وهم لا يتجاوزون "فرسن شاة" .
قلت : أنا لا يعنيني شيء من هذا القول أنا قادم لهذه البلاد لأمر ما وليس لي هم في الجدليات ووجهات النظر المتباينة ولا ضغائن النفوس .
صمت الجميع ثم أردف أحدهم أنت وصاحبك أثرتم بلبلة في الطائرة وكنتم خطرأ على الطائرة والركاب وأعتديتم على الطاقم وهذا مثبت لدينا في التقرير الذي استلمناه من الطاقم .
قلت : لدي مايثبت عكس هذا التقرير وكافة الركاب يشهدون على ذلك .
قال كيف ؟
قلت : أولا الرجل ليس بصاحبي وليس لي به علاقة لا من بعيد ولا من قريب ولم أفعل ما يخالف القوانين المتبعة في وسائل السفر.
ثانيا : الرجل من دولة وأنا من دولة أخرى . وفي حالة ما بحثتم في أوراقنا الثبوتية ستعلمون بأني لم أقل إلا الحقيقة .
وكل مافي الأمر أنه أستبدل مقعده بالمقعد الذي بجواري الذي كان صاحبته امرأة من "انيوزيلندا" وأوراق صعود الطائرة تثبت ذلك وليس لي يد في ما حصل من طرفه في الطائرة .
تناول الرجل جهاز نداء في حزامه وتحدث مع طرف آخر بلغة : "فرنكفونية" .
سحب أوراقي من على الطاولة التي أمامه وخرج فيما بقي الأثنان يتهامزون ويتلامزون: بكلام تفوح منه رائحة الحقد ؛ حول الصحراء والبدو الرحل والبترول .
حتى أنا ملأوني حقدا مثلم .
طلبت ماء . قال أحدهم أشرب من البترول فضحك الثاني .
ساويت حقيبتي على الأرض وافترشتها بعد ما فقدت الأحساس في مفاصلي من طول الوقوف .
قال أحدهم : لصاحبه بكلام لم أفهم منه إلا أنه شبهني بأحد الدواب . فضحك الثاني مِلئ شدقيه .
دخل الرجل الذي خرج قبل قليل وقال تعال معي .
تبعته على غير هدى . فيما قادني إلى مصعد صعد بنا وعندما فتح وجدت أننا في القسم الأعلى من المطار .
وسار بنا إلى باب صغير عندما فتحه فإذا بمكتب صغير يجلس خلفه رجل يحمل رتبة عسكرية . سلّمت فلم يرد السلام وضع الرجل الذي معي أوراقي أمامه على المكتب . تناول الأوراق وقرأ اسمي وطابقه مع مافي ورقة الطائرة . حدجني بنظره ثم ناولني أوراقي . وأشار إلى الرجل أن يخلي سبيلي .
شكرته فلم يرد على شكري .
خرجت مع الرجل الذي أتى بي وأشار إلى منفذ الجوزات الذي كانت علامته بائنة ولم يعتذر عن أي شيء . لا يهم ذلك عندي بقدر ما يهم الخروج من بؤرة الحقد التي ملأوني بها .
وصلت إلى موظف الجوازات الذي ماطل معي ولم أهتد له على قصد حتى قال لي صراحة لِمَ ماتكرمنا ؟ اندهشت في البداية ثم قلت إنني لا أمتلك إلا شيكات سياحية وبطاقة صرف . عبس في وجهي وأنجز معاملة دخولي .
خرجت إلى ساحة الحقائب وجدت حقيبتي مرمية في آخر "السيب" لكثر ما مرت به ولم يلتقطها أحد .
التزمت دوري في طابور التفتيش حتى وصلت إلى المفتش . كان يرمقني بنظرات غريبة ويتمتم ببعض الكلام الذي لم أفهمه أخذني على جنب وفتش الحقيبة وحتى التي في يدي قام بتفتيشها هي الأخرى وقال لي انتظر .
ذهب يفتش الأخرين ويمررهم بكل يسر . لاحظت أن أصحاب البشرة الشقراء والعيون الزرق يتوددون لهم ويمررونهم قبل غيرهم !.
وبعد ربع ساعة رجع لي وأعاد التفتيش في حقيبتي ! قلت يا أخي لِمَ كل هذا التعطيل ؟.
قال بنبرة جافة : أنت من يريد التعطيل أكرم أتعابنا نكرمك . تحاقرته ودسيت يدي في جيب قميصي وناولته دولارات لا أعلم عددها حتى الساعة ...
وطلبت من مضيفة ترتيب المقاعد أن تمنحني مقعدًا في أحد الجوانب . وأنا يحدوني الأمل أن يبتسم لي الحظ بثلاثة مقاعد لم يتم حجزها . أكوّم بها جسدي بعد الإقلاع .
دخلت من بوابة ردهة المغادرين وتفاجأت بأعداد هائلة من البشر لا يفصلني عنهم إلا حائط من الزجاج .غادون عكس خطواتي .في خطوات متسارعة أوشك بعضهم على الركض !
لاحت عن يساري لافتة توضّح بأن هُنا ردهة ركاب الدرجة الأولى.
قادني الفضول لمعرفة بماذا تختلف عن ردهة المسافرين الأخرين ؟
أعترض طريقي شابٌ لو أردت أن أتمنى لنفسي صورة فلن أزيد عليه .
حَيّاني بلباقة وأبتسامة حمدت الله أني لست أنثى .
طلب مني ورقة الصعود فأعطيتها له فأبتسهم أبتسامة دون سابقتها وقدم لي أعتذاره .
وكأنه أشار لي بلباقة أن هذه الردهة ليست لأمثالك . بعد إن سلّط نظرة فاحصة على حقيبتي التي أحملها في يدي اليسرى .
تظاهرت بأني لم أقرأ اللافتة بعد أن أحسست بغصة وتركته قائما .
توجهت إلى ردهة أمثالي وما أن وقعت عليها عيناي حتى أحسست بأنقباض .
طوابير من العمالة على بوابات الخروج ؛ وأناس يتحدثون في الهواتف بأصوات عالية .
منهم من يسحب من الحقائب ما تنؤ بحمله الجمال! ومنهم من يحتضن آلة تسجيل مزدوجة كادت أن تكون تلفازاً وأناساً تمددوا على المقاعد المستطيلة وراحوا في سبات عميق .فلم يعد لسواهم -مفحص قطاة- . وأطفال أحالوا أحد أبواب الزجاج المتحركة إلى لعبة شدّ الحبل . والضجيج يذكرني بباعة سوق السمك .
تجولت بصعوبة وتفحصت العديد من الوجوه وتسمّعت للعديد من اللغات
أجريت بعض الأتصالات بعد اطلاعي على التعليمات التي في ظهر الورقة بأنه يجب على كل المسافرين أغلاق هواتفهم الخلوية أثناء الرحلة حرصا على سلامة الرحلة . وتذكّرت في أحد الرحلات من مطار امستردام أنهم عرضوا علينا امكانية الأتصال بمبلغ لم أعد أتذكره لمن أراد ذلك .
حاولت أن أحتسي كوبا من الشاي ولكن كأن "الكفتيريا" فتحت في أحد معاقل مجاعة الصومال . برهة من الزمن وأنا أتابع المنظر العجيب خصوصا تلك المرأة التي تحمل على ذراعها اليمنى طفلاً مازال في المهد وعن يمينها وعن يسارها جيش من الأطفال المتكدسة أيديهم وأعينهم في حقيبتها اليدوية ويطالبوها بالمزيد من النقود .
الرجاء من ركاب الرحلة رقم (...) التوجه إلى البوابة رقم (9)
أخذت موضعي في الدور . وبدأ اليأس في حالة مدّ إلى نفسي من العثور على ثلاثة مقاعد أكوّم بها جسدي . لكثرة من دخلوا في طابور بوابتنا . امتلأت حافلة النقل بالركاب مما جعل الوقوف مُحتّما .
لفحت الوجوه ونحن نترجل من الحافلة عند سلّم الطائرة سموم قيظ الخليج ؛
فتسارعت الخُطى في الصعود على سلّم الطائرة
ونأت أحداهن بحمل حقيبتيها وجالت ببصرها عند أولى السلالم فلم يعيرها أحد أي أهتمام . حتى أنها أستعطفت أحدهم فشاح بوجهه وصعد . حقدتُ عليه بصدق .
عرفت طريق مقعدي . بعد أن أرشدتني اليه إحدى المضيفات التي لا تنقصها الرشاقة والجمال .تحدث قائد الرحلة مع الركاب عبر الراديو وأخبرهم أن الرحلة تربو على ست ساعات ونصف الساعة من الطيران . وتمنى لهم رحلة سعيدة وأنا كذلك تمنيت ولكن يبدو لم تتحقق أمنيتي .
كان مقعدي محاذيا للنافذة وبجانبي امرأة علمت فيمابعد أنها من "نيوزيلندا" ؛ وذاهبة إلى مؤتمر "تآخي الشعوب ضد مرض الايدز في روما" !.
تحدثت لي عن نشاطهم ومنحتني بعض الكتيبات وبعض الصور من مدينة "اوكلند" التي لم أزورها في حياتي . وبعد معرفة المسافة تضرعت أن لا أزورها .
تقدمت احدى المضيفات من المرأة النوزيلندية وهمست في أذنها .هزت المرأة رأسها وألتفتت نحوي وقالت: أعتذر منك هناك رجل يريد الجلوس بجانبك وسوف أتبادل معه المقاعد حسب ما أخبرتني المضيفة .
ماذا يريد منّي هذا الرجل هل في هذه الرحلة أحد أعرفه ولم تقع عيني عليه!(قلت ذلك في نفسي).
شكرتها للطفها معي وعلى ماقدمت لي من معلومات عن بلدها وعن نشاط جمعيتهم وعلى الكتيبات التي أهدتهم ليّ . أقبلت نفس المضيفة السابقة وفي أثرها رجل في حسباني انه شارف على العقد الخامس . حيّاني الرجل وبادلته بمثلها .
ثم قال هناك عائلة لم يرق لهم جلوسي بجانبهم فطلبت من المضيفة أن تبحث لي عن مقعد آخر فوقع الأختيار هنا لا يكون وجودي سبب لك شيئاً من الضيق ؟. أو أني قطعت عليك خلوتك مع هذه المليانة الشقراء وضحك .
أحسست بأنقباض من جرأته مع رجل لم يمض معه إلا أقل من دقيقتين .
طمنته بأننا اليوم أخوة سواء شئنا أم أبينا .ثما أني أحب الحديث مع من خط الشيب في مفارقهم .
التفت نحوي ثم قال لا تغتر بالشيب فأنا قلبي نابض بالشباب والحيوية أكثر من أي وقت مضى .
إن لم يعش الإنسان حياته عاشها غيره ...لا أعلم كيف ساق هذا القول ! هل الرجل يؤمن بتناسخ الأرواح ! أو أنه يردد قولا لا يعرف له حقيقة . وهذا ما اتضح لي بعد ذلك . تحدث الرجل معي في أشياء عدة حتى أنه عرّفني على اسمه الكامل ووجهة عمله وكم لديه من الأولاد والبنات وكم مرّة سافر إلى هذا البلد الذين متجهين له وعن مغامراته التي يستحي منها المراهقين . ثرثر معي في أشياء كثيرة .
حتى أني لم أعد أتذكّر ماقال قبل خمس دقائق من كثرة ماسرده بعدها . أشياء تتقبلها النفس على مضض وأشياء تشمئز النفس منها بالخصوص من رجل الشيخوخة إليه أقرب من أي شيء أخر .
قدم لنا مجازا وجبة خفيفة .تذكرني بوصفات الرجيم
نهضت وذهبت إلى عربة الكتب والصحف التي بمحاذاة بوابة الدخول لمحتها وأنا أدخل الطائرة . تحدثت مع شاب تركي يتصفح الجرائد . أحسسني الحديث معه بالفارق الشاسع بين الحديثين. الكهل المراهق والشاب الواعي . أحسسنا بعدم توازن في الطائرة فطلب منا القائد العودة إلى مقاعدنا وربط الأحزمة فنحن نمر بشحنات هوائية .
رجعت سريعا إلى مقعدي مثل من كانوا مثلي . وما ان جلست وربطت الحزام حتى لمحت عيني على طاولة صاحبي علبة "هنكن" .
أحسست بأنقباض أشد مما مضى . تناول كوبا من "البلاستيك" ودلق به بعض مافي العلبة وقدمه لي . فقلت بصوت حازم أنني لا أشرب المحرمات وخصوصا وأنا بين السماء والأرض .
فأطلق ضحكة مدوّية ربما أنها أزعجت ركاب الدرجة الأولى وأنا يحلولي ذلك .
بدأت أرفع صوتي بالتهليل لأحساسي بالخوف مما نحن فيه الطائرة غير مستقرة وصاحبنا يوزع "الهنكن" بالمجان .
حقدت على المرأة النيوزيلندية . هدأت الطائرة وسرّحنا الأحزمة . وقمت بجولة في الطائرة . لعلي ألتقي بالشاب التركي أو أحدا نحوه . ولكن لا حراك فالركاب مابين نائم ومتابع لفلم رعاة البقر الذي تعرضه شاشة الدرجة الثانية .
ما أن رجعت لمقعدي إلا وقد أصبح أمام صاحبي أربع علب من نفس العلبة السابقة .
دارت عربة السوق الحرّة بين الركاب . ونهض صاحبي وأتى يحمل زجاجة من "الويسكي" المعتق على حسب قوله . ابتاعها بمئات الدولارات .
وتحدث لي عنها : في السوق الحرّة نجدها نقيّة بالفعل أما في المدينة وفي الفنادق فأنها مغشوشة . وهم من المطار يسمحوا لنا بتمرير واحدة او أثنتان في بعض الأحيان ويدفعوننا عليها ضريبة . تشاغلت عنه بقراءة خبر في إحدى الصحف التي جلبتها من العربة المركونة بجانب المدخل .
مفاده :ستنتعش السياحة البينية في الدول العربية بعد انتشار "انفلونزا الخنازير" في الدول الغربية بشكل مخيف . وفي الصفحة المقابلة "انفلونزا الخنازير تغزو العالم العربي بعد الاعلان عن 42 حالة في اليومين السابقين في بعض الدول العربية" .
أخذت سدادة العيون التي يوفرها الطيران للمسافرين إذا رغبوا في النوم .
وليس رغبة بالنوم فحسب بلّ لعلها تجدي نفعا في التشبيه على هذا الشيخ المراهق بأني نائم .
كأنها أخذتني سِنة وأنا اتظاهر في الأساس . حتى رفع صاحبي عقيرته بالغناء .
بألوان شتى، شيء من التراث وآخر من الحديث وعرّج على الأغاني الوطنيّة لبلده وبدأ يتغنا بمجد بلده وعظمتها وبعض الأحيان يسرد أشعاراً بين الفصيح وبين الشعبي . علمت معها بأن الرجل قد دخل في عالم خارج نطاق علبتنا الطائرة .
قام بشتم الأحياء والأموات .وأنا على حالتي متظاهر بأني نائم اريد النظر إلى ساعتي لعل المسافة اقتربت ولكني أخشى أن يرى مني حركة ثم يدخلني في جوّه .
استدعى إحدى المضيفات بعد أن لكزني بكوعه لا أعلم هل عن قصد أو بدون قصد .
طلب منها كأساً وثلج . اعتذرت المضيفة بلباقة .
فمد يده إلى صدرها الذي يبدو منه أكثر مما حجب وكاد أن يتلمسه أو أنه بالأحرى تلمسه .
فصرخت المرأة وتراجعت في الممر الذي بين المقاعد . نهض في أثرها وتكوّم في الممر وهو يلعن ويشتم ولا أعلم هل يشتم المضيفة أو يشتم نفسه . يثرثر بشتائم لم يتضح لها مغزى .
نهض ورجع لمقعده وهو ينظر إلي ويقول هؤلاء بنات (...) ثم تناول احدى العلب وأجهز عليها بنفس واحد .
رجعت لنا المضيفة بصحبة اثنين من المضيفين وأشتد الكلام بينهم فحاول صاحبنا لطم أحدهما . فصده الرجل . وكاد أن يضربه لولا أني قفزت ومنعته وكذلك منعه صاحبه من ضربه . وقلت الأجدر بك ان تقدر حالة هذا الكائن فأنتم من سهل له أن يصل إلى هذه الحالة . قال لي أقنع صاحبك أو صده عن مايفعل داخل الطائرة وليس هو أول من يشرب فالنصف من الركاب شربوا ولم يفعلوا مثله.
:بعد الوصول لنا معه حساب . قلت لا يعنينني حسابكم معه ثم أنه ليس بصاحبي بل عميلكم وأنتم من نقله ومسؤولون عنه .
لخوفي على الرحلة وليس خوفاً على الكهل المراهق . أقنعته أن يربط الحزام لأننا قد اقترب لنا الوصول ويجب علينا الجلوس في مقاعدنا . امتثل للأمر ولا اعلم كيف أمتثل وهو بهذه الحالة المزرية حقا .
بعد ساعة والطائرة تسلك الهبوط تدريجيا الضغط يهبط من رؤوسنا مما حدى بالكثرين وأنا أحدهم بوضع أصابعنا في أذاننا .
ما أن هبطت الطائرة حتى طلب القائد من كافة الركاب عدم مغادرة المقاعد .
ساد الوجوم في داخل الطائرة للطلب الغريب ولم يسبق لي على كثرة أسفاري أن سمعت بمثل ذلك . ولم يقطع ذلك الوجوم إلا صوت أستفراغ صاحبي مافي معدته وشتائمه المتكررة التي حتى أنا لم أسلم منها .
ماهي إلا دقائق خمس حتى فتحت بوابة الطائرة ودخل منها خمسة رجال من الشرطة . دلّهم أحد المضيفين إلى مقاعدنا .
تقدموا منا وأخذوا أوراقنا الثبوتية ثم اقتادونا إلى بوابة الطائرة وأنا أحاول أفهامهم أني ليس لي ناقة ولا جمل ولا حتى دجاجة في صحبة هذا الكائن . ولكنهم طلبوا مني الصمت بحزم .
جلت ببصري في المقاعد ووقعت عيني على المرأة النيوزيلندية فشتمتها في نفسي .
وخشيت أن يراني الشاب التركي فيتحاقرني .
لم ينزلونا مع الخرطوم الذي يعتاد الركاب النزول معه بل أنزلونا مع سلّم إلى غرفة كبيرة وأغلقوا الباب من خلفنا وصاحبي المراهق مازال على حالته يثرثر ويشتم ويستفرغ .
ذهبوا به على ما اظن إلى دورة المياة لأنه قد بلل ملابسه رأيت ذلك بعد ما سار أمامي . وأتمنى أن لا يرجعونه ليّ.
جلست على كرسي عن يمين الباب . أتى رجل من الداخل وأشار علي بالقيام .
أمتثلت الأمر . أفتتح كلامه بشتيمة . قلت على مهلك يا رجل لِمَ تشتمني . فصاح بي أصمت يا (...) قلت لن أصمت ماذا فعلت حتى تشتمني ؟ فهددني بالحبس .
وتحوّل فمه إلى منجنيق من الشتائم . ظلّيت صامت . قال لِمَ لا ترد قلت أرد على ماذا ؟ على الشتائم ؟ أنني أترفع عن هذا الخُلق ثما أني لا أعلم لِمَ أنا هنا ؟!
ألا تعرف لِمَ أنت هنا ؟ وهل تعرفوا من أنتم أصلا ؟ لا تعرفون إلا الجمال والصحراء . :قلت الصحراء لم تعلمنا الشتائم ولا الخلق الرخيص ولا سوء الأدب .
تشتمني يا أبن (...) قالها بصوت ضج المكان .
قلت : لم أشتمك وحتى لو أردت ان أشتمك لن إصل إلى عشر ماشتمت نفسك به . إن من يشتم الناس لا يشتم إلا نفسه .
سحب الكرسي ودخل إلى بوابة خلفه وتركني قائما . حاولت أن أفتح هاتفي ولكنه لا يلتقط أية أرسال . أحسست بالكآبة بالفعل أخذت بجريرة غيري ورأيت وسمعت من سوء الخلق مالم أسمع به من قبل . بعد ربع ساعة فتح الباب الداخلي ودخل منه ثلاثة رجال يحملون أوراقي الثبوتية . تلى أحدهم اسمي الرباعي المكتوب في جواز سفري، ضحك وقال: حتى الأسماء لديكم فائض فيها وضحك الأثنان الآخران .
قال أحدهم متهكما : أنه البترول يحصلون به على كل شيء حتى أسمائهم . فتعالى ضحكهم .
قلت : إنما أنا ضيف لديكم وليست هذه من شيم العرب مع ضيوفهم .
فصرخ أحدهم ضاحكا قائلا: ضيف!!!
إنما أنت ضيف البترول، أرني مامعك من نقود . قال آخر نقوده معطرة بريحة البترول . وضحك الثلاثة بصوت عال .
ثما أعادوا عليّ مارواه صاحبهم السابق من رواية البدو الرحل الذين وجدوا البترول وتحولوا إلى أصحاب ثروة بين عشية وضحاها وهم لا يتجاوزون "فرسن شاة" .
قلت : أنا لا يعنيني شيء من هذا القول أنا قادم لهذه البلاد لأمر ما وليس لي هم في الجدليات ووجهات النظر المتباينة ولا ضغائن النفوس .
صمت الجميع ثم أردف أحدهم أنت وصاحبك أثرتم بلبلة في الطائرة وكنتم خطرأ على الطائرة والركاب وأعتديتم على الطاقم وهذا مثبت لدينا في التقرير الذي استلمناه من الطاقم .
قلت : لدي مايثبت عكس هذا التقرير وكافة الركاب يشهدون على ذلك .
قال كيف ؟
قلت : أولا الرجل ليس بصاحبي وليس لي به علاقة لا من بعيد ولا من قريب ولم أفعل ما يخالف القوانين المتبعة في وسائل السفر.
ثانيا : الرجل من دولة وأنا من دولة أخرى . وفي حالة ما بحثتم في أوراقنا الثبوتية ستعلمون بأني لم أقل إلا الحقيقة .
وكل مافي الأمر أنه أستبدل مقعده بالمقعد الذي بجواري الذي كان صاحبته امرأة من "انيوزيلندا" وأوراق صعود الطائرة تثبت ذلك وليس لي يد في ما حصل من طرفه في الطائرة .
تناول الرجل جهاز نداء في حزامه وتحدث مع طرف آخر بلغة : "فرنكفونية" .
سحب أوراقي من على الطاولة التي أمامه وخرج فيما بقي الأثنان يتهامزون ويتلامزون: بكلام تفوح منه رائحة الحقد ؛ حول الصحراء والبدو الرحل والبترول .
حتى أنا ملأوني حقدا مثلم .
طلبت ماء . قال أحدهم أشرب من البترول فضحك الثاني .
ساويت حقيبتي على الأرض وافترشتها بعد ما فقدت الأحساس في مفاصلي من طول الوقوف .
قال أحدهم : لصاحبه بكلام لم أفهم منه إلا أنه شبهني بأحد الدواب . فضحك الثاني مِلئ شدقيه .
دخل الرجل الذي خرج قبل قليل وقال تعال معي .
تبعته على غير هدى . فيما قادني إلى مصعد صعد بنا وعندما فتح وجدت أننا في القسم الأعلى من المطار .
وسار بنا إلى باب صغير عندما فتحه فإذا بمكتب صغير يجلس خلفه رجل يحمل رتبة عسكرية . سلّمت فلم يرد السلام وضع الرجل الذي معي أوراقي أمامه على المكتب . تناول الأوراق وقرأ اسمي وطابقه مع مافي ورقة الطائرة . حدجني بنظره ثم ناولني أوراقي . وأشار إلى الرجل أن يخلي سبيلي .
شكرته فلم يرد على شكري .
خرجت مع الرجل الذي أتى بي وأشار إلى منفذ الجوزات الذي كانت علامته بائنة ولم يعتذر عن أي شيء . لا يهم ذلك عندي بقدر ما يهم الخروج من بؤرة الحقد التي ملأوني بها .
وصلت إلى موظف الجوازات الذي ماطل معي ولم أهتد له على قصد حتى قال لي صراحة لِمَ ماتكرمنا ؟ اندهشت في البداية ثم قلت إنني لا أمتلك إلا شيكات سياحية وبطاقة صرف . عبس في وجهي وأنجز معاملة دخولي .
خرجت إلى ساحة الحقائب وجدت حقيبتي مرمية في آخر "السيب" لكثر ما مرت به ولم يلتقطها أحد .
التزمت دوري في طابور التفتيش حتى وصلت إلى المفتش . كان يرمقني بنظرات غريبة ويتمتم ببعض الكلام الذي لم أفهمه أخذني على جنب وفتش الحقيبة وحتى التي في يدي قام بتفتيشها هي الأخرى وقال لي انتظر .
ذهب يفتش الأخرين ويمررهم بكل يسر . لاحظت أن أصحاب البشرة الشقراء والعيون الزرق يتوددون لهم ويمررونهم قبل غيرهم !.
وبعد ربع ساعة رجع لي وأعاد التفتيش في حقيبتي ! قلت يا أخي لِمَ كل هذا التعطيل ؟.
قال بنبرة جافة : أنت من يريد التعطيل أكرم أتعابنا نكرمك . تحاقرته ودسيت يدي في جيب قميصي وناولته دولارات لا أعلم عددها حتى الساعة ...