جمعة الفاخري
03/10/2009, 06:59 PM
رَأْسٌ وَجَسَدٌ
قصَّة / جمعة الفاخري
على الجِدَارِ صُوْرَةُ أُمِّهِ .. وَخَرِيْطَةٌ لِوَطَنٍ كبيرٍ .. وفي المرْآةِ المغبرَةِ بَدَا رَأْسُهُ كَبِيْرًا مِثْلَ وَطَنٍ .. ومن جَسَدِهِ تفوحُ بقايا عطرٍ.. هَزَّ رأسَهُ .. تحسَّسَهُ براحَتِيهِ ومضى متقدِّمًا نحو المشنقَةِ .. رَفَعَ رَأسَهُ فرَأَى العالمَ من حولِهِ يغدو غابةً كبيرةً مظلمةً تَتَحوَّلُ إلى مَشَانِقَ تحتجزُ بأناشيْطِهَا المتينَةِ القاتلَةِ رؤوسًا تتخلَّى عنها أجسَادُهَا الثقيلَةُ تحتَ وطأةِ الاعتصَارِ المميتِ ..!
******
كانَ عليَّ أَنْ أقدِّمَ لهم صورةً جديدةً لاستخراجِ جوازِ سفرٍ لأتمكَّنَ من حضورِ مؤتمرٍ علميٍّ دوليٍّ ممثِّلاً لوطني .. معَ أنَّ صوري الأخرى كانتْ أحلى .. إذ كنْتُ شَابًّا فتيًّا وسيمًا بعضَ الشيْءِ .. أجملَ مني الآنَ ، فقد أمسى وجهي شاحبًا .. والخمسونُ الثقيلَةٌ تشخرُ على مسمعِ قلبي المجهَدِ .. تَتَوَكَّأُ بثقلِهَا الدَّميمِ على جسدِي النَّحيلِ الْمُنْهَكِ ..
كنْتُ غَائِصًا في التَّفكيرِ في العمرِ القَادمِ الفَاغِرِ فكَّيْهِ باتجَاهِ قلبي حينَ صَدَمَنِي المصوِّرُ مُحيِّيًا : تفضِّلْ يا سيِّدي ..
ـ صورةً .. أقصدُ أحتاجُ صورَةً ..
ـ تفضَّلْ ..
قالَها بمهنيَّةٍ عاليَةٍ ، لم يُخْفَ عليَّ خلُوُّها منَ دِفْءِ الصِّدْقِ .. نظرَ إلى ملابسي القديمَةِ غيرِ المتنَاسِقَةِ ألوانًا ، نظرَةً مغموسَةً في الاستصغارِ..
ـ إنَّها سُرْيَاليَّةٌ مُحَدَّثَةٌ ..
قلتُ ذلكَ لأصَفعَ نظرتَهُ المقلِّلَةَ من وَسَامتي ، الْمُسْتَهِيْنَةَ بِذَائقتي .. ثمَّ أردفْتُ : فأنا أَنْقُذُ بها الذَّوْقَ الجميلَ من هُوَّةِ الانحطاطِ العامِّ المتربِّصِ بالجمَالِ في كلِّ شيءٍ..!
لم يُدْرِكْ فَحْوَى توضيحي فظنُّ أَنَّهُ تعريضٌ بهِ فارتبكَ .. قوَّسَ كتفيْهِ ملمِّحًا بأنَّهُ غيرُ معنيٍّ بما أقولُ .. ثمَّ ابتسمَ بدملوماسيَّةٍ لإنقاذِ مَوْقِفِهِ الموْحِلِ بالإحراجِ قَامْعًا شعوري بأنَّ ثمَّةَ عدوانيَّةً في نظرَاتِهِ تجاهي .. وحتَّى لا يُشْعِرَني بانتقَاصِهِ من شخصيَّتي .. ولكي لا يخسرَني زبونًا على أقلِّ تقديرٍ ..!
اقتربَ مني مُحْتَجِزًا دهشتي بعينينِ معتذرتينِ بمكرٍ مفضوحٍ : سيِّدي ، بإمكانِنَا أَنْ نُصَوِّرَكَ ببذلَةٍ عصريَّةٍ مكتملَةٍ ، جاكيتٍ وربطَةِ عنقٍ وسروالٍ .. سَنُوْكِلُ لِلْحَاسُوْبِ هذهِ المهمَّةَ ؛ فبإمكانهِ أن يبتكرَ أشياءَ كثيرةً خَارِقَةً جدًّا .. حتى وجوهَ النَّاسِ الفضلاءِ مثلِكَ بإمكانِهِ أن يجمِّلَهَا .. أقصدُ يُدْخِلُ تحسينَاتٍ عليها فتبدو أجملَ وأحلى ..!
تحسَّسْتُ وجهي بيمنايَ ، قبلَ أنْ يستدرِكَ فَيُحِيَطُني بضحكَةٍ بلهاءَ لم تُعْجِبْني .. فَرَدَدْتُ بِأُخْرَى مشحونَةٍ بحموْلَةٍ سَاخِرَةٍ .. قَرَأَ فَحْوَاهَا فَأَدَارَ لي ظَهْرَهُ ، لِيَظْهَرَ بعدَهَا من وراءِ المكتبِ حَامِلاً صُوَرًا كثيرةً لقطعِ مشهدِ انْدِهَاشِي من مَزَاعِمِهِ المضحكةِ .
أراني بعضَ الصُّوَرِ قائلاً : هذهِ الرُّؤُوْسُ تعلو أجسادًا ليسَتْ لها ..!!؟؟
قفزَ إلى وجهي استغرابٌ متبجِّحٌ كانَ يمكنُ أن تبصقَهُ شفتايَ بصفاقَةِ سافرةٍ .. قَرَأَهُ بحنكَةِ الخبيرِ .. فَمَسَحَهُ بكلماتِهِ مُبَادِرًا بتفريقِ غيمَاتِ الدَّهْشَةِ : نحنُ نُصَوِّرُ الرأسَ .. ثم نقصُّهُ ببرنامجٍ اسْمُهُ ( فوتو شوب ) .. ثمَّ نلصقُهُ على جسدٍ آخرَ يرتدي بذلَةً بعدَ أن نقصَّ رَأسَهُ أيضًا .. أي نفصِلُهُ عن جسدِهِ لتغدوَ الصُّورةُ هكذا .. كما ترى .. لأحدَ يشكُّ أَنَّ هذا الرَّأسَ لهذا الجسدِ .. أرأيْتَ عبقريَّةَ الحاسوبِ..!؟
قرأَ في وجهي سؤالاً مُلحًّا عن مدَى صعوبَةِ الأمرِ من عدمِهِ ..!؟
فاستطردَ موضِّحًا: الأمرُ جدُّ سهلٍ .. لا تخفْ .. الشَّاةُ لا يُضِيْرُها سَلْخُهَا بعدَ ذَبِحِهَا ..!
ـ هه .. أنتَ جزَّارٌ أيَضًا ..!؟
ضَحِكَ من تعليقي ، وَطفقَ يُجَهِّزُ آلَتَهُ لتقطيعي وتلصيقي مجدَّدًا ..
ـ لكنَّكَ جزَّارٌ جميلٌ ..!
ابتسمَ ابتسامةً باردةً في وجْهِ عبارتي البطيئةِ المفضوحةِ النيَّاتِ .. فقابلتُهَا بأخرى أكثرَ برودةً .. خطرَ لي أن أطلبَ منْهُ أن يضعَ رأسي على جَسَدِ فَتَاةٍ نَضِرَةٍ..! فأنا لم ألتصقْ بأنثى طِوَالَ الخمسينَ عامًا الجرداءِ التي جَرَّفَتْ أعماقي على نحوٍ قاهرٍ .. ! لكنِّي أمسكتُ عن عرضِ فكرتي البلهَاءِ كي لا يتَّهِمَني بالجنونِ.
أوقفني خلفَ ستارَةٍ مُلَوَّنَةٍ .. خَدَّرَني بإضَاءَةٍ شديدةٍ مُسَلَّطَةٍ على وجهي من اتجاهينِ مختلفينِ .. رتَّبَتْ حَرَكَةُ يَدِهِ رأسَي المتمَايلَ كخصرِ راقصةٍ تتثنَّى .. ثبَّتَني في مرمى إيماضَةِ عدستِهِ المصوَّبَةِ نحوَ رأسي .. طلبَ مني الابتسامَ لِيُطْلِقَ على وجهي وَمْضَةً خاطفةً .. أغلقْتُ عينيَّ برمْشَةٍ وقائيَّةٍ عفويَّةٍ .. ابتسمَ معلنًا انتهاءَ المهمَّةِ .. طلبَ منِّي الجلوسَ ريثما يجهِّزُ لي صورَتي الملفَّقَةَ ..
جلسْتُ مُطلقًا بَصَرِي في صُوَرِ الملصَقَةِ بِالْجُدْرَانِ .. مُتَهِجِّيًا الابتسامَاتِ البلهَاءَ التي تسوِّقُهَا الصُّوَرُ الملفَّقَةُ وهيَ تُرَسِّخَ في ذهني أنَّها مصطنعَةٌ كلُّهَا كابتسامتي في صورَتي المنتظرَةِ اللَّقِيْطَةِ ..
غيرَ أَنَّ ابتسامَةً واحدةً لحسناءَ رقيقةٍ لم أستطعْ أَنْ أُقْنِعَ مخيِّلتي أنَّهَا كاذبَةٌ .. أحسسْتُ أنها كانت تبتسمُ حقيقةً .. وربما لي أنا ضبطًا .. كانت ابتسامَتُهَا تُرْسِلُ إلى قلبي أَشِعَّةً ملوَّنَةً أكثرَ تأثيرًا من تلكَ التي تبصقُهَا عينُ عدسَةِ هذا المصوِّرِ الجزَّارِ الأَبْلَهِ .. فقد شَعَرْتُ أَنَّ قلبي الذي شَاخَ .. وشَخَرَتْ على حَوَافِّهِ الخمسونَ الثقيلَةٌ ، قد بَدَأَ يَرْتَعِشُ .. ينبضُ .. يُصْدِرُ أَشِعَّةً قزحيَّةً ، ثمَّ ينزفُ أشواقًا بَاتِّصَالٍ .. يجترُّ أحاسيسَ مُؤْجَّلَةً قمعَ طفولَتَهَا انغمَاسِي في حياةٍ علميَّةٍ جَادَّةٍ جافَّةٍ .. لا أثرَ فيها لمشاعرِ الحبِّ المنعشَةِ ..!
بعفويَّةٍ اقترحَهَا خوفٌ نفسيٌّ ظلَّت يدي تتحسَّسُ رأسي خوفًا من مقصلَةِ المصوَّراتي الجزَّارِ ..!
نبَّهَني بابتسَامَةٍ مُصْطَنَعَةٍ وهو يُنَاوِلُني صُوْرَتي الجديدَةَ .. نظرْتُ إليها .. كَانَ وجْهِي يَغْتَصِبُ ابتسَامَةً بَاهِتَةً بِشَفتينِ مُتَشبِّثتينِ بالانقباضِ كتمانًا لسرِّ تَسَاقُطِ الْجِدَارِ الأبيضِ الْمُتَدَاِعي خلفَهُمَا .. حيَّيْتُهُ بنصفِ ابتسَامَةٍ باردَةٍ .. فحيَّاني بأوسعَ منها وأبردَ .. نَقَدْتُهُ النُّقُوْدَ وَخَرَجْتُ...
*****
وأنا أُغَادِرُ مَحَلَّ التَّصْوِيرِ شَعَرْتُ بشعورٍ غريبٍ ، فرأسي بَدَا لي أنَّهُ أَخَفُّ من جَسَدِي .. أُحِسُّ لو أنَّ ريحًا قويَّةً هبَّتْ عليَّ لأسقطَتْهُ .. أو أنني إذا تمايلْتُ فسيهوي من على جسدي فأبقى مجرَّدَ جسدٍ بلا رأسٍ .. أو فلربما سارَ الجسدُ هائمًا على ( مقطوعِ وجهِهِ ) أو على ( مكانِ وجهِهِ ) هل وصلتْ تكنولوجيا عصرِ الانفصالِ حتى إلى فصلِ الرُّؤوسِ عنِ الأَجْسَادِ..!؟
*****
النَّاسُ كلُّهم معلَّقونَ من رقابِهِم ، تتدلَّى أجسادُهُم في الهواءِ .. نبضاتُ قلوبِهِم كطقطقةِ عَدَسَةِ التَّصْويرِ .. تبدو رؤوسُهُم مفصولةً عن أجسادِهِم المنتفخَةِ .. قالَ في نفسِهِ : أَيُّ مِنَّا يشنقُ الآخرَ ..؟! هذهِ الرُّؤوسُ الفارِغَةُ ليست لهذهِ الأجسَادِ العفنةِ ..!
*****
في السِّيَّارَةِ ظللتُ مثبتًا رأسي .. لم أستطعِ الالتفاتَ أو حتَّى رَدَّ التَّحِيَّةِ خوفًا من سقوطِ رأسي المبجَّلِ من على جسدي..
وفي اللَّيْلِ الجهيمِ تَنَاوَبَتْني أفكارٌ سوداءُ غاشمةٌ .. تَلاعبَتْ بِذَاكِرَتي .. قَالَتْ لِي إِحْدَاها :( لو أنَّ هَذا الجاكيت لرجلٍ ثريٍّ .. يمكنُ أنْ يكونَ قد نسيَ بها أموالاً ستجعلُني ثريًّا مثلَهُ .. أو ربما لرجلٍ ميِّتٍ سيتحوَّلُ في اللَّيلِ إلى شبحٍ مُفْزِعٍ سيرتمي بجثَِّةٍ بلا رأسٍ عليَّ..؟ )
فزعتُ .. قفزْتُ جَزِعًا ممسكًا برأسي .. كان يتهيَّأُ لي أَنَّهُ يسقطُ .. وأنني جسدٍ مفصولٌ عنهُ رأسُهُ في غابِةِ العدمِ هذهِ ..!!
أكملتُ الليلَ أتحسَّسُ رقبتي .. كنْتُ أَشْعِرُ أَنَّ ثمَّةَ حبلاً حَادًّا يَخنقني بإمعانٍ فظيعٍ .. يفصل ُرأسي عن جسدي ..!
******
لكنَّ الغابَةَ صارتْ كلُّهَا مَشَانِقَ .. الموتُ اللَّعينُ يغتصبُ الحياةَ .. فَالرُّؤوسُ المفصولةُ عنِ الأجسادِ معلَّقةٌ في الهواءِ .. فهل كانَ رأسي بينها..!؟
******
في مرآةِ السَّيَّارَةِ كانَ وجهي يُشْعِرُني بورْطَةٍ ما تنتظرُني .. شَعَرْتُ بحجْمِ شُحُوْبِهِ يَزْدَادُ عن مُعَدَّلِهِ الطبيعيِّ .. لعنْتُ تلكَ الفكرَةَ الْقَذِرَةَ التي حَمَّلتني هذا الْعِبْأَ الثَّقِيْلَ .. فلمَاذا يتخلَّى المرءُ عن بعضِهِ تحتَ وَطْأَةِ الظُّرُوْفِ الْقَذِرَةِ ، وَانحنَاءً للمؤَثِّرَاتِِ الْبَذِيْئَةِِ .. فهل خُلِقَ الإِنْسَانُ ضعيفًا لهذا الحدَّ المؤسِفِ ..!؟
******
على الجِدَارِ صُوْرَةُ أُمِّيِ .. وَخَرِيْطَةٌ لِوَطَنٍ كبيرٍ .. وفي المرْآةِ المغبرَةِ بَدَا رَأْسِي كَبِيْرًا مِثْلَ وَطَنٍ .. رشَشتُ عطرًا أثيرًا على جَسَدِي.. تأكَّدت من سَلامَةِ رأسي.. من ثباتِهِ على كتفيِّ.. ومضيتُ .. حينما هبطْتُ مِنَ السَّيَّارَةِ كَانَ رَأْسي يترنَّحُ على نحوٍ مُرْعبٍ فَيُرَنِّحُني مَعَهُ .. كنتُ أبدو مثلَ ثَمِلٍ .. العيونُ الْمُنْكِرْةُ تُنَابِزُني بالسُّكْرِ .. تَتَلاسَنُ معَ نظراتي الْمُنْكِرَةِ لتهَمِهَا الباطلَةِ لي .. ابتسامَةُ شرطيِّ الجمَارِكِ بَدَتْ لي مسمومةً .. قرأْتُ فيها تاريخَ خُبْثٍ مُوَجَّهًا .. لاسَيَّمَا وأنا لا أرتاحَ لنظراتِ العسكرِ المزروعَةِ شكوكًا .. المتناسِلَةِ رِيْبَةً .. ستفقصُ عن تهمٍ كثيرَةٍ .. وستبيضُ اتِّهَامَاتٍ فَاجِرَةً مُلفَّقةً لا حصرَ لها ..!؟
شعرْتُ وهو يقتربُ مني أَنَّهُ يَشَاءُ تلمُّسَ كتفي .. تحسَّسَ رأسي للتأكُّدِ من أنَّهُ أصليٌّ غيرُ مُصْطَنعٍ .. يَدُهُ تتهجَّى كتفي .. مَلَصْتُ بِجَسَدِي النَّاحِلِ منهُ فازدادَ رِيبةً .. بصقَ على شيخوختي المتعثِّرَةِ كلمَاتٍ جَارِحَةً .. نكَّسْتُ رأسي فشعرْتُ بَأَنَّهُ آيلٌ للسُّقوطِ ، وبأنني آيلٌ للضَّعْفِ .. لانهيارٍ فظيعٍ ..
بنظرةٍ مزدريَةٍ زَجَرَ تَكَوُّمِي ، فيما استدْعَتْ عينَاهُ جوازَ سَفَرِي المتوارِي في جيبي .. احتواهُ بيديهِ الغليظتينِ الخشنَينِ ، قَلَّبَهُ مُتنقلاًً بِبصرِهِ الْمُدْمِنِ التُّهَمَ بيَن وجهي وصورتي في جوازِ السَّفرِ مِثْلَ بندولٍ .. بَدَتْ شُكُوْكُهُ الْمُزْمِنَةُ تَتَنَاسَلُ من كُلِّ حِقْدٍ وَرِيْبَةٍ .. فقد طَفَقَ يَسْأَلُني أسئلةً مُجَابَةً كلَّهَا بينَ يديهِ .. لا أظنُّ أنَّهُ كَانَ يُحْسِنُ القراءةَ .. تُرَى هَلْ لفَّقَتْ لي نَظْرَتُهُ الحرْشَاءُ تهمَةً ما ؟ ...
تململْتُ .. حَرَّكْتُ رَأْسِي بِهُدُوْءٍ خِشْيَةَ إِسْقَاطِهِ . منتظِرًا وابِلَ أسئلَتِهِ العميَاءِ الأخرى ..!
******
رأسي على جسدٍ آخرَ يبدو أنَّهُ ملعونٌ .. وجسدي يتحمَّلُ ثقلَ رأسٍ وحشيٍّ ربما كانَ لعسكريٍّ جهمٍ كهذا .. أو لقاتلٍ محترفٍ .. والغابَةُ تمتلئُ رؤوسًا ..وبالأجسادِ أيضًا .. والموتُ عرَّابٌ دمويٌّ للمجزرةِ البشعَةِ ..
*****
ـ ما عملُكَ .. ؟
ـ أستاذٌ جَامِعِيٌّ ..
ـ في أيِّ جامعٍ ..؟
ـ بلْ في الجامعةِ ، أُدَرِّسُ الفيزياءَ النَّوويَّةَ ..
ـ هذا ما كنْتُ أتوقَّعُهُ .. تشتغلُ بالذرَّةِ ... إرهابيٌّ إذًا ..!؟
ـ لا واللهِ ... أنا أعلِّمُهَا لأبناءِ وطني .. لنلحقَ بركبِ العالمِ والتطوُّرِ ..
ـ هناكَ ستقولُ هذا الكلامَ ..
ـ أين ..؟؟
هَزَّ رأسَهُ .. فقيَّدَني عسكريَانِ .. هَزَزْتُ رأسي فَكَادَ يسقطُ من على كتفي .. فيما كانَ بابُ السيَّارَةِ المقفلُ يُعِيْدُني لِلَحْظَةِ وَعيٍ .. لقد غدوْتُ مُعْتَقَلاً بتهمَةِ الإرهَابِ .. فلماذا أهزُّ رأسي الآنَ ؟ ..
******
صارَ ينقلُ بصرَهُ بينَ رأسي وبقيَّةِ جسدي بآليَّةٍ مرعبَةٍ .. بَدُوْتُ لَهُ أَنِّي أَكْبَرُ صُوْرَتِي بِعَشْرِ سَنَوَاتٍ .. تحيَّرَ بينَ الرَّأسِ والجسدِ أَيُِهُمَا كَانَ حقيقيًّا وأيُّهُمَا مُزَوَّرًا..؟!
سألني مستغربًا : أينَ رأسُكَ الحقيقيُّ .. وأينَ جَسُدُكَ ..!؟
فانفجرْتُ فيهِ غاضِبًا: إِنَّ حكَّامَكُم أجسَادٌ لا رؤوسَ لها .. !؟
نَبَحَني بسيلِ شتائمَ ثمَّ وضعَ إصبعَهُ القذرةَ على أرنبَةِ أنفي ، وقالَ بهدوءِ المستهترِ الحقودِ المتشفِّي: أنتَ مُزَوِّرٌ خطيرٌ .. مجرمٌ .. هلِ الإِرهابُ يقترحُ عليكَ هذا التُّنكُّرَ ..!؟
ـ لا .. إنَّهُ الحاسوبُ..!؟
ـ ستحضرُ كلُّ أدواتِ التَّزْوِيْرِ التي استعملْتَهَا ..
ـ لماذا لا تشكُّونَ في غيرِ رأسي.. !؟ أنتَ مثلاً هل أنتَ متأكِّدٌ من أنَّ ما على جثَّتِكِ هو رأسُكَ ..!؟ وهل هذا الرَّأْسُ الصَّغيرُ الجاثمُ تحتَ ظِلِّ غِطَاءِ رأسٍ عسكريٍّ يتوسَّطُهُ تاجٌ مزوَّرٌ هو لصاحبِهِ الضَّخْمِ هذا بكرشه المنبعجةِ مثلَ خيمةٍ ..؟ كيف تحصَّلَ على كلِّ هذهِ الأوسمَةِ والأنوَاطِ والنَّيَاشينِ والأوشحَةِ التي تغطي صدرَهُ وكتفيهِ .. وهو لم يدخلْ حربًا أصلاً .. ولم يكسبْ معركةً واحدةً ..!؟
قبلَ أن أموتَ أريدَ أن أفهمَ أيَّ تزويرٍ للبطولةِ أتى بهذهِ الأوسمَةِ إلى هذهِ الأكتَافِ العريضَةِ المرتجفةِ ..؟ ونصَّبَ هذا التَّاجَ البَائسَ على هذا الرَّأسِ المرتجِّ..!؟ بل كيف وصلَ هذا الرَّأسُ المقطوفُ إلى هذهِ الجثَّةِ البشعَةِ ..
*****
لم تعجبْهُم إِجَابَاتي المناوِئَةُ.. أَدْرَكْتُ مصيري المؤسِفَ ، مصيرَ رَأْسِي وجسدِي ، فبعدَ أن ورَّطوني رغمًا عنِّي في مستنقعِ اتهاماتِهِم العمياءِ أطلقْتُ نيرانَ أعماقي الهائِجَةِ نحوَهَم .. بدا لي أني مُتَّهَمٌ حتى تثبتَ إدانتي .. رأسي يُدِينني .. وجسدي شَاهِدُ زورٍ ضدِّي .. ضحكتُ مِلْءَ سخريَّتي ..
*****
استجمَعَ حقَّدَهُ كلَّهُ .. نظرَ إليَّ .. أدنى أنفَهَ الذَّميمَ من وجهي .. نَهَشَنْي مرَّةً أخرى قائلاً : أخرسْ يا كلبُ .. هذا جسدُ الرَّئِيْسِ المعظِّمِ .. والرَّأسُ رأسَهُ .. وهي صورَتُهُ في عيدِ اعتلائِهِ الكرسيِّ المقدَّسِ .. ستشنقُ أشدَّ شنقةٍ.. نحنَ لا نتساهلُ معَ إِرْهَابيٍّ مثلكِ ..
*****
رأسٌ.. غابةٌ .. مَشَانقُ .. رؤوسٌ .. مؤتمرٌ .. ذرَّةٌ .. إرهابٌ .. تاجٌ .. أكتافٌ .. كرسيٍّ.. أحسسْتُ بأنَّ سؤالاً في داخلي ينتصبُ وهو : هل جسدي من غيرِ رأسٍ قد رُكِّبَ عليهِ رأسٌ آخرُ ..!؟ فأَنَا نِصْفُ مَشْنُوقٍ .. وصاحبُ الجسدِ الذي يحتملُني نصفُ مشنوقٍ أيضًا .. لقد كنتُ بريئًا وَكاَن بريئًا أيضًا ..
أيُّ ظلمٍ تقترفُهُ الحياةُ في حقِّنا ..!؟
ألا يمكنُ أن يكونَ الجسدُ الذي يْمتطيْهِ رأسي هو جسدُ الرئيسِ المعظَّمِ ..!؟
إنهم ـ إذًا ـ يَشْنُقونَ نصفَ الرئيسِ .. ونصفَ مواطنٍ .. سيموتُ المواطنُ .. ويبقى نصفُ الرئيسِ موهومًا بأنَّهُ حيٌّ .. يا لَلسُّخْرِيَّةِ!؟
*****
جرُّوني للغَابةِ .. ارتجَّتِ المشنقةُ فرحًا بمقدمِي.. بمقدمِ رأسي .. تقدَّمتُ نحو الموتِ بثباتٍ
بدت لي أشياءَ لم أكن أعلمنُ أني أحملها معي .. صُوْرَةُ أُمِّي على الجدَارِ .. وخريطةٌ لوطنٍ كبيرٍ .. كانَ الحبلُ يُخَاشِنُ رقبتي وأنا أمدُّ للموتِ رأسي .. الرَّأسُ الذي كنتُ أرفعُهُ نحوَ علمِ بلادي وهوَ يخترقُ السَّمَاءَ شموخًا .. الذي كنْتُ أبارِكُهُ كلَّ صَبَاحٍ بعناقِ الشمسِ البتولِ ، وكلَّ مساءٍ بمناغاةِ القمرِ العَاشقِ ، وَمُشَاكَسَةِ النجومِ العذارى ..!؟
الحبلُ يُنَابِزُ رَقَبَتي بالحزِّ المميتِ ، انتفضْتُ حينَ أدرَكْتُ أَنُّهُ نفسُ الحبلِ الذي كنْتُ أَلَفُّهُ على خَاصِرَةِ السَّارِيَّةِ الحامِلَةِ عَلَمَ بلادي .. !!
******
يُفْصَلُ الرَّأسُ عنِ الجَسَدِ .. يسقطُ إلى أعلى .. أنظرُ إلى أشياءَ حميمةٍ تسقطُ منهُ إلى أسفلَ .. أتأمُّلُهَا مُخْتَلِطةً بالدِّمَاءِ .. بعضِ أناشيدِي عنِ الوطنِ كنتُ ألقِّنُهَا لِلصِّغَارِ ، وصورَةِ أمِّي .. وعطرٍ أدَّخِرُهُ لعرسٍ قادمٍ..!
******
قصَّة / جمعة الفاخري
على الجِدَارِ صُوْرَةُ أُمِّهِ .. وَخَرِيْطَةٌ لِوَطَنٍ كبيرٍ .. وفي المرْآةِ المغبرَةِ بَدَا رَأْسُهُ كَبِيْرًا مِثْلَ وَطَنٍ .. ومن جَسَدِهِ تفوحُ بقايا عطرٍ.. هَزَّ رأسَهُ .. تحسَّسَهُ براحَتِيهِ ومضى متقدِّمًا نحو المشنقَةِ .. رَفَعَ رَأسَهُ فرَأَى العالمَ من حولِهِ يغدو غابةً كبيرةً مظلمةً تَتَحوَّلُ إلى مَشَانِقَ تحتجزُ بأناشيْطِهَا المتينَةِ القاتلَةِ رؤوسًا تتخلَّى عنها أجسَادُهَا الثقيلَةُ تحتَ وطأةِ الاعتصَارِ المميتِ ..!
******
كانَ عليَّ أَنْ أقدِّمَ لهم صورةً جديدةً لاستخراجِ جوازِ سفرٍ لأتمكَّنَ من حضورِ مؤتمرٍ علميٍّ دوليٍّ ممثِّلاً لوطني .. معَ أنَّ صوري الأخرى كانتْ أحلى .. إذ كنْتُ شَابًّا فتيًّا وسيمًا بعضَ الشيْءِ .. أجملَ مني الآنَ ، فقد أمسى وجهي شاحبًا .. والخمسونُ الثقيلَةٌ تشخرُ على مسمعِ قلبي المجهَدِ .. تَتَوَكَّأُ بثقلِهَا الدَّميمِ على جسدِي النَّحيلِ الْمُنْهَكِ ..
كنْتُ غَائِصًا في التَّفكيرِ في العمرِ القَادمِ الفَاغِرِ فكَّيْهِ باتجَاهِ قلبي حينَ صَدَمَنِي المصوِّرُ مُحيِّيًا : تفضِّلْ يا سيِّدي ..
ـ صورةً .. أقصدُ أحتاجُ صورَةً ..
ـ تفضَّلْ ..
قالَها بمهنيَّةٍ عاليَةٍ ، لم يُخْفَ عليَّ خلُوُّها منَ دِفْءِ الصِّدْقِ .. نظرَ إلى ملابسي القديمَةِ غيرِ المتنَاسِقَةِ ألوانًا ، نظرَةً مغموسَةً في الاستصغارِ..
ـ إنَّها سُرْيَاليَّةٌ مُحَدَّثَةٌ ..
قلتُ ذلكَ لأصَفعَ نظرتَهُ المقلِّلَةَ من وَسَامتي ، الْمُسْتَهِيْنَةَ بِذَائقتي .. ثمَّ أردفْتُ : فأنا أَنْقُذُ بها الذَّوْقَ الجميلَ من هُوَّةِ الانحطاطِ العامِّ المتربِّصِ بالجمَالِ في كلِّ شيءٍ..!
لم يُدْرِكْ فَحْوَى توضيحي فظنُّ أَنَّهُ تعريضٌ بهِ فارتبكَ .. قوَّسَ كتفيْهِ ملمِّحًا بأنَّهُ غيرُ معنيٍّ بما أقولُ .. ثمَّ ابتسمَ بدملوماسيَّةٍ لإنقاذِ مَوْقِفِهِ الموْحِلِ بالإحراجِ قَامْعًا شعوري بأنَّ ثمَّةَ عدوانيَّةً في نظرَاتِهِ تجاهي .. وحتَّى لا يُشْعِرَني بانتقَاصِهِ من شخصيَّتي .. ولكي لا يخسرَني زبونًا على أقلِّ تقديرٍ ..!
اقتربَ مني مُحْتَجِزًا دهشتي بعينينِ معتذرتينِ بمكرٍ مفضوحٍ : سيِّدي ، بإمكانِنَا أَنْ نُصَوِّرَكَ ببذلَةٍ عصريَّةٍ مكتملَةٍ ، جاكيتٍ وربطَةِ عنقٍ وسروالٍ .. سَنُوْكِلُ لِلْحَاسُوْبِ هذهِ المهمَّةَ ؛ فبإمكانهِ أن يبتكرَ أشياءَ كثيرةً خَارِقَةً جدًّا .. حتى وجوهَ النَّاسِ الفضلاءِ مثلِكَ بإمكانِهِ أن يجمِّلَهَا .. أقصدُ يُدْخِلُ تحسينَاتٍ عليها فتبدو أجملَ وأحلى ..!
تحسَّسْتُ وجهي بيمنايَ ، قبلَ أنْ يستدرِكَ فَيُحِيَطُني بضحكَةٍ بلهاءَ لم تُعْجِبْني .. فَرَدَدْتُ بِأُخْرَى مشحونَةٍ بحموْلَةٍ سَاخِرَةٍ .. قَرَأَ فَحْوَاهَا فَأَدَارَ لي ظَهْرَهُ ، لِيَظْهَرَ بعدَهَا من وراءِ المكتبِ حَامِلاً صُوَرًا كثيرةً لقطعِ مشهدِ انْدِهَاشِي من مَزَاعِمِهِ المضحكةِ .
أراني بعضَ الصُّوَرِ قائلاً : هذهِ الرُّؤُوْسُ تعلو أجسادًا ليسَتْ لها ..!!؟؟
قفزَ إلى وجهي استغرابٌ متبجِّحٌ كانَ يمكنُ أن تبصقَهُ شفتايَ بصفاقَةِ سافرةٍ .. قَرَأَهُ بحنكَةِ الخبيرِ .. فَمَسَحَهُ بكلماتِهِ مُبَادِرًا بتفريقِ غيمَاتِ الدَّهْشَةِ : نحنُ نُصَوِّرُ الرأسَ .. ثم نقصُّهُ ببرنامجٍ اسْمُهُ ( فوتو شوب ) .. ثمَّ نلصقُهُ على جسدٍ آخرَ يرتدي بذلَةً بعدَ أن نقصَّ رَأسَهُ أيضًا .. أي نفصِلُهُ عن جسدِهِ لتغدوَ الصُّورةُ هكذا .. كما ترى .. لأحدَ يشكُّ أَنَّ هذا الرَّأسَ لهذا الجسدِ .. أرأيْتَ عبقريَّةَ الحاسوبِ..!؟
قرأَ في وجهي سؤالاً مُلحًّا عن مدَى صعوبَةِ الأمرِ من عدمِهِ ..!؟
فاستطردَ موضِّحًا: الأمرُ جدُّ سهلٍ .. لا تخفْ .. الشَّاةُ لا يُضِيْرُها سَلْخُهَا بعدَ ذَبِحِهَا ..!
ـ هه .. أنتَ جزَّارٌ أيَضًا ..!؟
ضَحِكَ من تعليقي ، وَطفقَ يُجَهِّزُ آلَتَهُ لتقطيعي وتلصيقي مجدَّدًا ..
ـ لكنَّكَ جزَّارٌ جميلٌ ..!
ابتسمَ ابتسامةً باردةً في وجْهِ عبارتي البطيئةِ المفضوحةِ النيَّاتِ .. فقابلتُهَا بأخرى أكثرَ برودةً .. خطرَ لي أن أطلبَ منْهُ أن يضعَ رأسي على جَسَدِ فَتَاةٍ نَضِرَةٍ..! فأنا لم ألتصقْ بأنثى طِوَالَ الخمسينَ عامًا الجرداءِ التي جَرَّفَتْ أعماقي على نحوٍ قاهرٍ .. ! لكنِّي أمسكتُ عن عرضِ فكرتي البلهَاءِ كي لا يتَّهِمَني بالجنونِ.
أوقفني خلفَ ستارَةٍ مُلَوَّنَةٍ .. خَدَّرَني بإضَاءَةٍ شديدةٍ مُسَلَّطَةٍ على وجهي من اتجاهينِ مختلفينِ .. رتَّبَتْ حَرَكَةُ يَدِهِ رأسَي المتمَايلَ كخصرِ راقصةٍ تتثنَّى .. ثبَّتَني في مرمى إيماضَةِ عدستِهِ المصوَّبَةِ نحوَ رأسي .. طلبَ مني الابتسامَ لِيُطْلِقَ على وجهي وَمْضَةً خاطفةً .. أغلقْتُ عينيَّ برمْشَةٍ وقائيَّةٍ عفويَّةٍ .. ابتسمَ معلنًا انتهاءَ المهمَّةِ .. طلبَ منِّي الجلوسَ ريثما يجهِّزُ لي صورَتي الملفَّقَةَ ..
جلسْتُ مُطلقًا بَصَرِي في صُوَرِ الملصَقَةِ بِالْجُدْرَانِ .. مُتَهِجِّيًا الابتسامَاتِ البلهَاءَ التي تسوِّقُهَا الصُّوَرُ الملفَّقَةُ وهيَ تُرَسِّخَ في ذهني أنَّها مصطنعَةٌ كلُّهَا كابتسامتي في صورَتي المنتظرَةِ اللَّقِيْطَةِ ..
غيرَ أَنَّ ابتسامَةً واحدةً لحسناءَ رقيقةٍ لم أستطعْ أَنْ أُقْنِعَ مخيِّلتي أنَّهَا كاذبَةٌ .. أحسسْتُ أنها كانت تبتسمُ حقيقةً .. وربما لي أنا ضبطًا .. كانت ابتسامَتُهَا تُرْسِلُ إلى قلبي أَشِعَّةً ملوَّنَةً أكثرَ تأثيرًا من تلكَ التي تبصقُهَا عينُ عدسَةِ هذا المصوِّرِ الجزَّارِ الأَبْلَهِ .. فقد شَعَرْتُ أَنَّ قلبي الذي شَاخَ .. وشَخَرَتْ على حَوَافِّهِ الخمسونَ الثقيلَةٌ ، قد بَدَأَ يَرْتَعِشُ .. ينبضُ .. يُصْدِرُ أَشِعَّةً قزحيَّةً ، ثمَّ ينزفُ أشواقًا بَاتِّصَالٍ .. يجترُّ أحاسيسَ مُؤْجَّلَةً قمعَ طفولَتَهَا انغمَاسِي في حياةٍ علميَّةٍ جَادَّةٍ جافَّةٍ .. لا أثرَ فيها لمشاعرِ الحبِّ المنعشَةِ ..!
بعفويَّةٍ اقترحَهَا خوفٌ نفسيٌّ ظلَّت يدي تتحسَّسُ رأسي خوفًا من مقصلَةِ المصوَّراتي الجزَّارِ ..!
نبَّهَني بابتسَامَةٍ مُصْطَنَعَةٍ وهو يُنَاوِلُني صُوْرَتي الجديدَةَ .. نظرْتُ إليها .. كَانَ وجْهِي يَغْتَصِبُ ابتسَامَةً بَاهِتَةً بِشَفتينِ مُتَشبِّثتينِ بالانقباضِ كتمانًا لسرِّ تَسَاقُطِ الْجِدَارِ الأبيضِ الْمُتَدَاِعي خلفَهُمَا .. حيَّيْتُهُ بنصفِ ابتسَامَةٍ باردَةٍ .. فحيَّاني بأوسعَ منها وأبردَ .. نَقَدْتُهُ النُّقُوْدَ وَخَرَجْتُ...
*****
وأنا أُغَادِرُ مَحَلَّ التَّصْوِيرِ شَعَرْتُ بشعورٍ غريبٍ ، فرأسي بَدَا لي أنَّهُ أَخَفُّ من جَسَدِي .. أُحِسُّ لو أنَّ ريحًا قويَّةً هبَّتْ عليَّ لأسقطَتْهُ .. أو أنني إذا تمايلْتُ فسيهوي من على جسدي فأبقى مجرَّدَ جسدٍ بلا رأسٍ .. أو فلربما سارَ الجسدُ هائمًا على ( مقطوعِ وجهِهِ ) أو على ( مكانِ وجهِهِ ) هل وصلتْ تكنولوجيا عصرِ الانفصالِ حتى إلى فصلِ الرُّؤوسِ عنِ الأَجْسَادِ..!؟
*****
النَّاسُ كلُّهم معلَّقونَ من رقابِهِم ، تتدلَّى أجسادُهُم في الهواءِ .. نبضاتُ قلوبِهِم كطقطقةِ عَدَسَةِ التَّصْويرِ .. تبدو رؤوسُهُم مفصولةً عن أجسادِهِم المنتفخَةِ .. قالَ في نفسِهِ : أَيُّ مِنَّا يشنقُ الآخرَ ..؟! هذهِ الرُّؤوسُ الفارِغَةُ ليست لهذهِ الأجسَادِ العفنةِ ..!
*****
في السِّيَّارَةِ ظللتُ مثبتًا رأسي .. لم أستطعِ الالتفاتَ أو حتَّى رَدَّ التَّحِيَّةِ خوفًا من سقوطِ رأسي المبجَّلِ من على جسدي..
وفي اللَّيْلِ الجهيمِ تَنَاوَبَتْني أفكارٌ سوداءُ غاشمةٌ .. تَلاعبَتْ بِذَاكِرَتي .. قَالَتْ لِي إِحْدَاها :( لو أنَّ هَذا الجاكيت لرجلٍ ثريٍّ .. يمكنُ أنْ يكونَ قد نسيَ بها أموالاً ستجعلُني ثريًّا مثلَهُ .. أو ربما لرجلٍ ميِّتٍ سيتحوَّلُ في اللَّيلِ إلى شبحٍ مُفْزِعٍ سيرتمي بجثَِّةٍ بلا رأسٍ عليَّ..؟ )
فزعتُ .. قفزْتُ جَزِعًا ممسكًا برأسي .. كان يتهيَّأُ لي أَنَّهُ يسقطُ .. وأنني جسدٍ مفصولٌ عنهُ رأسُهُ في غابِةِ العدمِ هذهِ ..!!
أكملتُ الليلَ أتحسَّسُ رقبتي .. كنْتُ أَشْعِرُ أَنَّ ثمَّةَ حبلاً حَادًّا يَخنقني بإمعانٍ فظيعٍ .. يفصل ُرأسي عن جسدي ..!
******
لكنَّ الغابَةَ صارتْ كلُّهَا مَشَانِقَ .. الموتُ اللَّعينُ يغتصبُ الحياةَ .. فَالرُّؤوسُ المفصولةُ عنِ الأجسادِ معلَّقةٌ في الهواءِ .. فهل كانَ رأسي بينها..!؟
******
في مرآةِ السَّيَّارَةِ كانَ وجهي يُشْعِرُني بورْطَةٍ ما تنتظرُني .. شَعَرْتُ بحجْمِ شُحُوْبِهِ يَزْدَادُ عن مُعَدَّلِهِ الطبيعيِّ .. لعنْتُ تلكَ الفكرَةَ الْقَذِرَةَ التي حَمَّلتني هذا الْعِبْأَ الثَّقِيْلَ .. فلمَاذا يتخلَّى المرءُ عن بعضِهِ تحتَ وَطْأَةِ الظُّرُوْفِ الْقَذِرَةِ ، وَانحنَاءً للمؤَثِّرَاتِِ الْبَذِيْئَةِِ .. فهل خُلِقَ الإِنْسَانُ ضعيفًا لهذا الحدَّ المؤسِفِ ..!؟
******
على الجِدَارِ صُوْرَةُ أُمِّيِ .. وَخَرِيْطَةٌ لِوَطَنٍ كبيرٍ .. وفي المرْآةِ المغبرَةِ بَدَا رَأْسِي كَبِيْرًا مِثْلَ وَطَنٍ .. رشَشتُ عطرًا أثيرًا على جَسَدِي.. تأكَّدت من سَلامَةِ رأسي.. من ثباتِهِ على كتفيِّ.. ومضيتُ .. حينما هبطْتُ مِنَ السَّيَّارَةِ كَانَ رَأْسي يترنَّحُ على نحوٍ مُرْعبٍ فَيُرَنِّحُني مَعَهُ .. كنتُ أبدو مثلَ ثَمِلٍ .. العيونُ الْمُنْكِرْةُ تُنَابِزُني بالسُّكْرِ .. تَتَلاسَنُ معَ نظراتي الْمُنْكِرَةِ لتهَمِهَا الباطلَةِ لي .. ابتسامَةُ شرطيِّ الجمَارِكِ بَدَتْ لي مسمومةً .. قرأْتُ فيها تاريخَ خُبْثٍ مُوَجَّهًا .. لاسَيَّمَا وأنا لا أرتاحَ لنظراتِ العسكرِ المزروعَةِ شكوكًا .. المتناسِلَةِ رِيْبَةً .. ستفقصُ عن تهمٍ كثيرَةٍ .. وستبيضُ اتِّهَامَاتٍ فَاجِرَةً مُلفَّقةً لا حصرَ لها ..!؟
شعرْتُ وهو يقتربُ مني أَنَّهُ يَشَاءُ تلمُّسَ كتفي .. تحسَّسَ رأسي للتأكُّدِ من أنَّهُ أصليٌّ غيرُ مُصْطَنعٍ .. يَدُهُ تتهجَّى كتفي .. مَلَصْتُ بِجَسَدِي النَّاحِلِ منهُ فازدادَ رِيبةً .. بصقَ على شيخوختي المتعثِّرَةِ كلمَاتٍ جَارِحَةً .. نكَّسْتُ رأسي فشعرْتُ بَأَنَّهُ آيلٌ للسُّقوطِ ، وبأنني آيلٌ للضَّعْفِ .. لانهيارٍ فظيعٍ ..
بنظرةٍ مزدريَةٍ زَجَرَ تَكَوُّمِي ، فيما استدْعَتْ عينَاهُ جوازَ سَفَرِي المتوارِي في جيبي .. احتواهُ بيديهِ الغليظتينِ الخشنَينِ ، قَلَّبَهُ مُتنقلاًً بِبصرِهِ الْمُدْمِنِ التُّهَمَ بيَن وجهي وصورتي في جوازِ السَّفرِ مِثْلَ بندولٍ .. بَدَتْ شُكُوْكُهُ الْمُزْمِنَةُ تَتَنَاسَلُ من كُلِّ حِقْدٍ وَرِيْبَةٍ .. فقد طَفَقَ يَسْأَلُني أسئلةً مُجَابَةً كلَّهَا بينَ يديهِ .. لا أظنُّ أنَّهُ كَانَ يُحْسِنُ القراءةَ .. تُرَى هَلْ لفَّقَتْ لي نَظْرَتُهُ الحرْشَاءُ تهمَةً ما ؟ ...
تململْتُ .. حَرَّكْتُ رَأْسِي بِهُدُوْءٍ خِشْيَةَ إِسْقَاطِهِ . منتظِرًا وابِلَ أسئلَتِهِ العميَاءِ الأخرى ..!
******
رأسي على جسدٍ آخرَ يبدو أنَّهُ ملعونٌ .. وجسدي يتحمَّلُ ثقلَ رأسٍ وحشيٍّ ربما كانَ لعسكريٍّ جهمٍ كهذا .. أو لقاتلٍ محترفٍ .. والغابَةُ تمتلئُ رؤوسًا ..وبالأجسادِ أيضًا .. والموتُ عرَّابٌ دمويٌّ للمجزرةِ البشعَةِ ..
*****
ـ ما عملُكَ .. ؟
ـ أستاذٌ جَامِعِيٌّ ..
ـ في أيِّ جامعٍ ..؟
ـ بلْ في الجامعةِ ، أُدَرِّسُ الفيزياءَ النَّوويَّةَ ..
ـ هذا ما كنْتُ أتوقَّعُهُ .. تشتغلُ بالذرَّةِ ... إرهابيٌّ إذًا ..!؟
ـ لا واللهِ ... أنا أعلِّمُهَا لأبناءِ وطني .. لنلحقَ بركبِ العالمِ والتطوُّرِ ..
ـ هناكَ ستقولُ هذا الكلامَ ..
ـ أين ..؟؟
هَزَّ رأسَهُ .. فقيَّدَني عسكريَانِ .. هَزَزْتُ رأسي فَكَادَ يسقطُ من على كتفي .. فيما كانَ بابُ السيَّارَةِ المقفلُ يُعِيْدُني لِلَحْظَةِ وَعيٍ .. لقد غدوْتُ مُعْتَقَلاً بتهمَةِ الإرهَابِ .. فلماذا أهزُّ رأسي الآنَ ؟ ..
******
صارَ ينقلُ بصرَهُ بينَ رأسي وبقيَّةِ جسدي بآليَّةٍ مرعبَةٍ .. بَدُوْتُ لَهُ أَنِّي أَكْبَرُ صُوْرَتِي بِعَشْرِ سَنَوَاتٍ .. تحيَّرَ بينَ الرَّأسِ والجسدِ أَيُِهُمَا كَانَ حقيقيًّا وأيُّهُمَا مُزَوَّرًا..؟!
سألني مستغربًا : أينَ رأسُكَ الحقيقيُّ .. وأينَ جَسُدُكَ ..!؟
فانفجرْتُ فيهِ غاضِبًا: إِنَّ حكَّامَكُم أجسَادٌ لا رؤوسَ لها .. !؟
نَبَحَني بسيلِ شتائمَ ثمَّ وضعَ إصبعَهُ القذرةَ على أرنبَةِ أنفي ، وقالَ بهدوءِ المستهترِ الحقودِ المتشفِّي: أنتَ مُزَوِّرٌ خطيرٌ .. مجرمٌ .. هلِ الإِرهابُ يقترحُ عليكَ هذا التُّنكُّرَ ..!؟
ـ لا .. إنَّهُ الحاسوبُ..!؟
ـ ستحضرُ كلُّ أدواتِ التَّزْوِيْرِ التي استعملْتَهَا ..
ـ لماذا لا تشكُّونَ في غيرِ رأسي.. !؟ أنتَ مثلاً هل أنتَ متأكِّدٌ من أنَّ ما على جثَّتِكِ هو رأسُكَ ..!؟ وهل هذا الرَّأْسُ الصَّغيرُ الجاثمُ تحتَ ظِلِّ غِطَاءِ رأسٍ عسكريٍّ يتوسَّطُهُ تاجٌ مزوَّرٌ هو لصاحبِهِ الضَّخْمِ هذا بكرشه المنبعجةِ مثلَ خيمةٍ ..؟ كيف تحصَّلَ على كلِّ هذهِ الأوسمَةِ والأنوَاطِ والنَّيَاشينِ والأوشحَةِ التي تغطي صدرَهُ وكتفيهِ .. وهو لم يدخلْ حربًا أصلاً .. ولم يكسبْ معركةً واحدةً ..!؟
قبلَ أن أموتَ أريدَ أن أفهمَ أيَّ تزويرٍ للبطولةِ أتى بهذهِ الأوسمَةِ إلى هذهِ الأكتَافِ العريضَةِ المرتجفةِ ..؟ ونصَّبَ هذا التَّاجَ البَائسَ على هذا الرَّأسِ المرتجِّ..!؟ بل كيف وصلَ هذا الرَّأسُ المقطوفُ إلى هذهِ الجثَّةِ البشعَةِ ..
*****
لم تعجبْهُم إِجَابَاتي المناوِئَةُ.. أَدْرَكْتُ مصيري المؤسِفَ ، مصيرَ رَأْسِي وجسدِي ، فبعدَ أن ورَّطوني رغمًا عنِّي في مستنقعِ اتهاماتِهِم العمياءِ أطلقْتُ نيرانَ أعماقي الهائِجَةِ نحوَهَم .. بدا لي أني مُتَّهَمٌ حتى تثبتَ إدانتي .. رأسي يُدِينني .. وجسدي شَاهِدُ زورٍ ضدِّي .. ضحكتُ مِلْءَ سخريَّتي ..
*****
استجمَعَ حقَّدَهُ كلَّهُ .. نظرَ إليَّ .. أدنى أنفَهَ الذَّميمَ من وجهي .. نَهَشَنْي مرَّةً أخرى قائلاً : أخرسْ يا كلبُ .. هذا جسدُ الرَّئِيْسِ المعظِّمِ .. والرَّأسُ رأسَهُ .. وهي صورَتُهُ في عيدِ اعتلائِهِ الكرسيِّ المقدَّسِ .. ستشنقُ أشدَّ شنقةٍ.. نحنَ لا نتساهلُ معَ إِرْهَابيٍّ مثلكِ ..
*****
رأسٌ.. غابةٌ .. مَشَانقُ .. رؤوسٌ .. مؤتمرٌ .. ذرَّةٌ .. إرهابٌ .. تاجٌ .. أكتافٌ .. كرسيٍّ.. أحسسْتُ بأنَّ سؤالاً في داخلي ينتصبُ وهو : هل جسدي من غيرِ رأسٍ قد رُكِّبَ عليهِ رأسٌ آخرُ ..!؟ فأَنَا نِصْفُ مَشْنُوقٍ .. وصاحبُ الجسدِ الذي يحتملُني نصفُ مشنوقٍ أيضًا .. لقد كنتُ بريئًا وَكاَن بريئًا أيضًا ..
أيُّ ظلمٍ تقترفُهُ الحياةُ في حقِّنا ..!؟
ألا يمكنُ أن يكونَ الجسدُ الذي يْمتطيْهِ رأسي هو جسدُ الرئيسِ المعظَّمِ ..!؟
إنهم ـ إذًا ـ يَشْنُقونَ نصفَ الرئيسِ .. ونصفَ مواطنٍ .. سيموتُ المواطنُ .. ويبقى نصفُ الرئيسِ موهومًا بأنَّهُ حيٌّ .. يا لَلسُّخْرِيَّةِ!؟
*****
جرُّوني للغَابةِ .. ارتجَّتِ المشنقةُ فرحًا بمقدمِي.. بمقدمِ رأسي .. تقدَّمتُ نحو الموتِ بثباتٍ
بدت لي أشياءَ لم أكن أعلمنُ أني أحملها معي .. صُوْرَةُ أُمِّي على الجدَارِ .. وخريطةٌ لوطنٍ كبيرٍ .. كانَ الحبلُ يُخَاشِنُ رقبتي وأنا أمدُّ للموتِ رأسي .. الرَّأسُ الذي كنتُ أرفعُهُ نحوَ علمِ بلادي وهوَ يخترقُ السَّمَاءَ شموخًا .. الذي كنْتُ أبارِكُهُ كلَّ صَبَاحٍ بعناقِ الشمسِ البتولِ ، وكلَّ مساءٍ بمناغاةِ القمرِ العَاشقِ ، وَمُشَاكَسَةِ النجومِ العذارى ..!؟
الحبلُ يُنَابِزُ رَقَبَتي بالحزِّ المميتِ ، انتفضْتُ حينَ أدرَكْتُ أَنُّهُ نفسُ الحبلِ الذي كنْتُ أَلَفُّهُ على خَاصِرَةِ السَّارِيَّةِ الحامِلَةِ عَلَمَ بلادي .. !!
******
يُفْصَلُ الرَّأسُ عنِ الجَسَدِ .. يسقطُ إلى أعلى .. أنظرُ إلى أشياءَ حميمةٍ تسقطُ منهُ إلى أسفلَ .. أتأمُّلُهَا مُخْتَلِطةً بالدِّمَاءِ .. بعضِ أناشيدِي عنِ الوطنِ كنتُ ألقِّنُهَا لِلصِّغَارِ ، وصورَةِ أمِّي .. وعطرٍ أدَّخِرُهُ لعرسٍ قادمٍ..!
******