مجد الأمة
20/02/2010, 01:45 AM
مِنْ أمْسِيَاتِ المَاضِي ... |4|
هَا أنَا أفْتَحُ أصَابِعَ القَلْب لأكْتُبَ عَنْ أمْسِيَةٍ أخْرَى مِنْ أمْسِيَاتِ ذَلكَ المَاضِي الكَئِيبْ الذِي مَا فَتِئَتْ تَفَاصِيلُهُ تُعَانِقُ ذَاكِرَتِي حتّى بِتُّ أمْقُتُهَا، ولأنّنِي أشْتَهِي مُعَانَقة اليَرَاعْ، أرَدْتُ أنْ أكْتُب، لا لِشَيْء سِوَى أنّي قَابِلة للانْفِجَار سَاعَة البُكَاءْ والحَنِينْ حُرُوفًا، وأمْسِيَتِي هَذِه مُخْتَلِفَة عَنْ سَابِقَاتِهَا وأوْرَاقِي كَذلِك،ْ فَهَذِهِ المَرّة سأنْقُش عَلىَ كَتِفِ الحَرْفْ وَشْمَ الرّحِيلْ.
جِرَاحُ الغُرْبَة، عُريُ القَلْب، رَائحةُ الرّحِيلْ ومَذَاقُ الحَسْرة كُلّهَا لَعَنَاتٌ طَالَتْ حَياتِي لتُصَيّرَنِي امْرأةَ شَمْعٍ تَنْصَهِرُ أمَامَ كُلّ وَرَقةٍ تَسْقُطُ مِنْ عُمْرِي .. لأنْطِفَئَ وأنْثُرَ أوْرَاق مَوْتِي عَلَى حَافَةِ الوَجَعْ.
انْهِزَامَاتٌ مُتَعَاقِبَة وخَيَبَاتٌ مُتتَالِيَة قَضمَتْ بأنْيَابِهَا أصَابِعَ العُمْرْ، حُزْنٌ كَظِيمٌ يَشُدُّ عَلَى الجَنَاحِ الأيْسَر حدّ التّمَزُّقْ وجَسَدٌ مُهشّمٌ بتَصَدُّعَاتِ الانْْتِظَارْ .. وامْرأةٌ قَدْ أخَذَ مِنْهَا الوَهَنُ مَا أخَذْ، لا تَمْلِكُ سِوى إطْلاق العَنَانِ لدُمُوعِهَا علّهَا تَجِدُ سَبِيلاً للارْتِيَاحْ، ولكن عَبَثٌ هُوَ ارْتِدَاءُ أرْدِية الرَّجَاءْ والتّمَسُّكُ بِبَصِيصِ الأمَلْ، فالرَّاحِلُونْ مَضَوْا حَيْثُ الأشْيَاءُ لا تَعُودْ ..
مَوْتٌ سَحِيقٌ تَلَقَّفنِي وجَعَلَ منِّي مَوْطِنًا مُصَابًا بَعْجْقَةِ الحَنِينْ بَعْدَمَا كُنْتُ كَوْكَبًا مُكْتَظًّا بالأحْلاَمْ والأمْنِيَاتْ .. ولكِنْ أحْلاَمِي وَقَعَتْ بَوَهْمِ مَلاَمِحٍ عَمْياءْ وفَتَحَتْ أبْوَابَهَا لعُمْقِ الوَجَعْ المَشْؤُومْ لِتُقْفَلَ كُلَّ تَرَاتِيل البَوْحْ ..
غَامَ بِي غُبَارُ الذَكْرَياتْ وأتَى يَحْمِلُ مَعهُ خُذْلاَنًا بِعَدَدِ حُبَيْبَاتِه والذَرَّاتْ، أتَى كَرِيحِ سَامّةٍ تَفْتَرِسُ لَحْمَ قَلْبِي والفَرَحْ، وتُبَعْثِرُ كُلّ ألْوَان طُهْرِي ..
أحْمِلُ ذَاكِرةً نِصْفُهَا جَمِيلْ ونِصْفُهَا مُمْتَلِئٌ بالبُكَاءْ، أبْكِي زَمَنًا ألْقَانِي وَجْهًا غَائِمًا بالحُزْنِ واللاّحَظْ، أبْكِي حِكَايتِي التِي افْتَرَسَهَا رَعْدُ الخَوْف وزَمْهَرِيرُ الظّنُونْ.
أمْضِي ودُمُوعِي بِيَدِي وخَرِيفٌ سَكَنَ بِجَوْفِ تَجَاعيدِي، أمْضِي وأتحسَّسُ نَبْضِي وأزِيزُ رُوحِي المُتْعَبَة مِنْ عقِيدَةِ الفَقْدْ والانْتِظَارْ، ولَحْنٌ بِعُنُقِي يَحْتَرقُ فيُسَبّبُ لِي الاخْتِنَاقْ، أمْضِي حَامِلةً مَعِي سَفِينةَ حَظّي نَحْوَ جَزِيرةِ الذّاكِرةِ المَهْجُورَة، لأمَارِسَ النّسْيَانْ وإزَالةِ الوَشْمِ عَنْهَا، ولكِنْ لَا أمْلِكُ الشّجَاعةَ الكَافِيَة لتَهْجِيرِ قَبَائِل دِمَائِهِمْ مِنْ بَيَادرِ دَمِي، ولاَ عُدْتُ قَادِرة عَلَى قَطْعِ صَوْتِ ذِكْراهمْ عَنْ أذُنِ ذَاكِرَتِي ورَبِي مَا عُدْتُ قَادِرة.
كَمْ أنْتَ عَظِيمٌ يَا وَجَعِي، كَمْ هُوَ عَظِيمٌ ألَمِي، ذَاكَ الألَمُ الذّي لاَ يَقْوى عَلى اسْتِيعَابِ كَدَماتِهِ بَشَرْ، إنَّهُ ذِئْبٌ يَنْهَشُ أرْوَاحَنَا ويَصْهرُ أضْلاعَنَا حتّى تَذُوبَ عَلى حَافّةِ الآهْ، فلاَ نَشْعُرُ إلاَّ بدَمْعٍ سَاخِنٍ يَنْهَمِرُ مِنْ عُيُونِنَا.
خَذَلَنِي الأصْحَابْ والأحْبَابْ، وتمنَّيْتُ لوْ أنّ الطَّعَنات كَانت مِنْ يَدٍ غَيْرَ أيْدِيهِمْ، تمنَّيْتُ لَوْ أنَّ الحُلُمَ أزهِقَ بإزْمِيل شَخْصٍ غَيْرهم، وتمنَّيْتُ وتمنَّيْتُ ولكِنْ بعْدَ اسْتِفَاقَتِي مِنْ غَيْبُوبَتِي لَمْ أجِدْ سِوَى أشْبَاح تَحُومُ حَوْلِي تَعْتَرِفُ بالجَرِيمَة، أمَّا هُمْ فقَدْ حَمَلُوا حقَائِبَهُم ورَحَلُوا ولَمْ يأبَهُوا بِمَنْ رَسَمَتْهُمْ برُوحِ مَشَاعِرِهَا، واسْتَبْسَلَتْ فِي إحْيَاءِ الموْتى بِهِمْ، وفِي المُقَابِلْ أوْغَلُوا سَهْمَ قَتْلِهَا هُجْرَانًا بِعُمْقْ الجُرْحْ.
لاَ أمْلِكُ الآنَ مِنْ رصِيدِ الحُلُمُ إلاَّيْ وبَعْضًا مِنْ دُمُوعْ، وعُمْر ضَائِعْ وأمْنِيَات مَهْضُومَة وأشْوَاق كَسِيحَة، لاَ أمْلِكُ سِوَى مِسَاحَةٍ فَارِغَة أمَارِسُ بِهَا الفَقْدْ، وعَنْ قَرِيبٍ سأفْقِدُنِي وأفْقِدُ هَويَّتِي وانْتِمَائِي لأصْبِحَ مُجرّدَ علاَمَةِ تَعَجُّبٍ بِبلاَدِ المَنْفَى، أبِيعُ رَغِيفَ الحُزْن لِشحَّاذِ الوَجَعْ وأسْكِنَ جُرْحًا بِي لا يَكُّفُ عَنِ الصّرَاخِ و العَوِيلْ ..
ومَازَلت قَلائِدُ الشَّوقِ تَخْنُقنِي وتُحِيطُ جِيدَ الفقْد مُنذْ أنْ وَطَأ الغِيَاب عُتْبَة الوِصَال .. وفِي قَلِبِي ألَمُ كَبِير يَمْتَدُّ مِن المَوْتِ للمِيلاَدْ مُتوَّجٌ بِسِلْسِلة خَيَبَاتٍ وحُلُمٍ سَبَقَ طَيْفَهُ فانْكَسَرْتُ فَوْقَ أمْوَاجِهِ شَظَايَا أشْجَانْ.
يَا ألَمِي المُتَوَهّجُ فِي رُوحي، أوْغَلْتَني فِي مَتَاهَةِ ضَيَاعٍ لا نِهَايَة لمُنْعَطَفَاتِهَا ولاَ دَلِيلٍ يَدُلُّنِي عَلى مخَارجِهَا، رمَيْتَنِي بِحَفْنَة أشْوَاكٍ تُدْمِينِي ولاَ بَلْسَم أمْلِكُ لِيُضمّدَنِي ويُشْفِينِي، وفِي طُوفَانِ الضَّياعِ تَرَكْتَنِي غَرِيقَةً أتمسَّكُ بأطْيَافِ حُلُمٍ مَسْلُوبْ، وخَرَجْتُ مِن دَوَّامَتِي بِجَسَدٍ ونِصْفِ رُوحْ وشِرْيَانٍ مُبَعْثَرٍ وابْتِسَامةٍ مَقْتُولَة، لأصْبِحَ امْرَأةً سَهْلَةَ الانْكِسَارْ، وَاهِنَةً، أنْهَكَتْهَا الحَيَاة المَطْمُورَةِ بوَحْلِ الخِيَانَة.
والآن .. بَعْدَ أنْ فقَدْتُ الأمَلَ فِي كُلّ شَيْء، وبَعْدَمَا لَمْ يَعُدْ يَهمُّنِي شَيْء، قرَّرْتُ نَحْر بَرَاءتِي، والتَّخلّي عنْ وطنيَّتي وانْتِمائِي وهويَّتِي، والإبْحِار فِي عُمْقِ الوَجَعْ نَحْوَ شُطْآنٍ مَهْجُورةٍ مِنْ كُلّ انْسٍ وجِنّ، وأدْخُلُ فِي سُبَاتٍ طَوِيل تَنَامُ فِيه عُيُونُ الطّفْلَةِ بِي المُبتَلّةُ بِحُلْمٍ لَمْ يَكْتَمِلْ.
ولأنّنِي امْرَأةٌ تُصَادِقُ الغُرَبَاء وتَشْتهِي المَنَافِي وتُحِبُّ رُكُوب القِطَارَاتْ وحَمْل حَقائِب السّفرْ وبَعْدَ أنْ شَنَقْتُ غُصْنَ الأمَلْ سَأرْحَلُ وأغِيبُ حَيْثُ الأشْيَاء لاَ تَعُودُ
اعْذُرُونِي فقِطَارُ الرَّحِيل بَلَغَ محطَّتِي ولاَ مَجَال لتأخِير الرّحْلَة، واعْذُرُونِي لأنّنِي سأكْسِرُ القَلَمْ وأمزّقُ الوَرَقْ فأنَا لاَ أصْلُح للكِتَابة، فاليَرَاعُ قَدْ شَاخَ بأحْزَانِي، وأشْجَانِي التِي شِخْتُ بِهَا، أردتْنِي امْرأةً فَوْقَ الخَمْسِينْ وأنَا مُجرَّدُ فَتَاةٍ لَمْ تُكْمِل سنَّ الثَّامنة بَعْد العَشَرة.
أسْتَوْدِعُكُمْ ربّ الدَّمْعِ الذِي مَا توقَّف عنِ الانْهِمَارْ .. وتَذَّكَّرُونِي كُلَّمَا عَانقتْ أعْيُنُكُمْ أرْدِيَة أحْرُفِي.
بقلم: مَجْدْ الأمّة
كُتِبَتْ يَوْمْ 23\01\2010م
هَا أنَا أفْتَحُ أصَابِعَ القَلْب لأكْتُبَ عَنْ أمْسِيَةٍ أخْرَى مِنْ أمْسِيَاتِ ذَلكَ المَاضِي الكَئِيبْ الذِي مَا فَتِئَتْ تَفَاصِيلُهُ تُعَانِقُ ذَاكِرَتِي حتّى بِتُّ أمْقُتُهَا، ولأنّنِي أشْتَهِي مُعَانَقة اليَرَاعْ، أرَدْتُ أنْ أكْتُب، لا لِشَيْء سِوَى أنّي قَابِلة للانْفِجَار سَاعَة البُكَاءْ والحَنِينْ حُرُوفًا، وأمْسِيَتِي هَذِه مُخْتَلِفَة عَنْ سَابِقَاتِهَا وأوْرَاقِي كَذلِك،ْ فَهَذِهِ المَرّة سأنْقُش عَلىَ كَتِفِ الحَرْفْ وَشْمَ الرّحِيلْ.
جِرَاحُ الغُرْبَة، عُريُ القَلْب، رَائحةُ الرّحِيلْ ومَذَاقُ الحَسْرة كُلّهَا لَعَنَاتٌ طَالَتْ حَياتِي لتُصَيّرَنِي امْرأةَ شَمْعٍ تَنْصَهِرُ أمَامَ كُلّ وَرَقةٍ تَسْقُطُ مِنْ عُمْرِي .. لأنْطِفَئَ وأنْثُرَ أوْرَاق مَوْتِي عَلَى حَافَةِ الوَجَعْ.
انْهِزَامَاتٌ مُتَعَاقِبَة وخَيَبَاتٌ مُتتَالِيَة قَضمَتْ بأنْيَابِهَا أصَابِعَ العُمْرْ، حُزْنٌ كَظِيمٌ يَشُدُّ عَلَى الجَنَاحِ الأيْسَر حدّ التّمَزُّقْ وجَسَدٌ مُهشّمٌ بتَصَدُّعَاتِ الانْْتِظَارْ .. وامْرأةٌ قَدْ أخَذَ مِنْهَا الوَهَنُ مَا أخَذْ، لا تَمْلِكُ سِوى إطْلاق العَنَانِ لدُمُوعِهَا علّهَا تَجِدُ سَبِيلاً للارْتِيَاحْ، ولكن عَبَثٌ هُوَ ارْتِدَاءُ أرْدِية الرَّجَاءْ والتّمَسُّكُ بِبَصِيصِ الأمَلْ، فالرَّاحِلُونْ مَضَوْا حَيْثُ الأشْيَاءُ لا تَعُودْ ..
مَوْتٌ سَحِيقٌ تَلَقَّفنِي وجَعَلَ منِّي مَوْطِنًا مُصَابًا بَعْجْقَةِ الحَنِينْ بَعْدَمَا كُنْتُ كَوْكَبًا مُكْتَظًّا بالأحْلاَمْ والأمْنِيَاتْ .. ولكِنْ أحْلاَمِي وَقَعَتْ بَوَهْمِ مَلاَمِحٍ عَمْياءْ وفَتَحَتْ أبْوَابَهَا لعُمْقِ الوَجَعْ المَشْؤُومْ لِتُقْفَلَ كُلَّ تَرَاتِيل البَوْحْ ..
غَامَ بِي غُبَارُ الذَكْرَياتْ وأتَى يَحْمِلُ مَعهُ خُذْلاَنًا بِعَدَدِ حُبَيْبَاتِه والذَرَّاتْ، أتَى كَرِيحِ سَامّةٍ تَفْتَرِسُ لَحْمَ قَلْبِي والفَرَحْ، وتُبَعْثِرُ كُلّ ألْوَان طُهْرِي ..
أحْمِلُ ذَاكِرةً نِصْفُهَا جَمِيلْ ونِصْفُهَا مُمْتَلِئٌ بالبُكَاءْ، أبْكِي زَمَنًا ألْقَانِي وَجْهًا غَائِمًا بالحُزْنِ واللاّحَظْ، أبْكِي حِكَايتِي التِي افْتَرَسَهَا رَعْدُ الخَوْف وزَمْهَرِيرُ الظّنُونْ.
أمْضِي ودُمُوعِي بِيَدِي وخَرِيفٌ سَكَنَ بِجَوْفِ تَجَاعيدِي، أمْضِي وأتحسَّسُ نَبْضِي وأزِيزُ رُوحِي المُتْعَبَة مِنْ عقِيدَةِ الفَقْدْ والانْتِظَارْ، ولَحْنٌ بِعُنُقِي يَحْتَرقُ فيُسَبّبُ لِي الاخْتِنَاقْ، أمْضِي حَامِلةً مَعِي سَفِينةَ حَظّي نَحْوَ جَزِيرةِ الذّاكِرةِ المَهْجُورَة، لأمَارِسَ النّسْيَانْ وإزَالةِ الوَشْمِ عَنْهَا، ولكِنْ لَا أمْلِكُ الشّجَاعةَ الكَافِيَة لتَهْجِيرِ قَبَائِل دِمَائِهِمْ مِنْ بَيَادرِ دَمِي، ولاَ عُدْتُ قَادِرة عَلَى قَطْعِ صَوْتِ ذِكْراهمْ عَنْ أذُنِ ذَاكِرَتِي ورَبِي مَا عُدْتُ قَادِرة.
كَمْ أنْتَ عَظِيمٌ يَا وَجَعِي، كَمْ هُوَ عَظِيمٌ ألَمِي، ذَاكَ الألَمُ الذّي لاَ يَقْوى عَلى اسْتِيعَابِ كَدَماتِهِ بَشَرْ، إنَّهُ ذِئْبٌ يَنْهَشُ أرْوَاحَنَا ويَصْهرُ أضْلاعَنَا حتّى تَذُوبَ عَلى حَافّةِ الآهْ، فلاَ نَشْعُرُ إلاَّ بدَمْعٍ سَاخِنٍ يَنْهَمِرُ مِنْ عُيُونِنَا.
خَذَلَنِي الأصْحَابْ والأحْبَابْ، وتمنَّيْتُ لوْ أنّ الطَّعَنات كَانت مِنْ يَدٍ غَيْرَ أيْدِيهِمْ، تمنَّيْتُ لَوْ أنَّ الحُلُمَ أزهِقَ بإزْمِيل شَخْصٍ غَيْرهم، وتمنَّيْتُ وتمنَّيْتُ ولكِنْ بعْدَ اسْتِفَاقَتِي مِنْ غَيْبُوبَتِي لَمْ أجِدْ سِوَى أشْبَاح تَحُومُ حَوْلِي تَعْتَرِفُ بالجَرِيمَة، أمَّا هُمْ فقَدْ حَمَلُوا حقَائِبَهُم ورَحَلُوا ولَمْ يأبَهُوا بِمَنْ رَسَمَتْهُمْ برُوحِ مَشَاعِرِهَا، واسْتَبْسَلَتْ فِي إحْيَاءِ الموْتى بِهِمْ، وفِي المُقَابِلْ أوْغَلُوا سَهْمَ قَتْلِهَا هُجْرَانًا بِعُمْقْ الجُرْحْ.
لاَ أمْلِكُ الآنَ مِنْ رصِيدِ الحُلُمُ إلاَّيْ وبَعْضًا مِنْ دُمُوعْ، وعُمْر ضَائِعْ وأمْنِيَات مَهْضُومَة وأشْوَاق كَسِيحَة، لاَ أمْلِكُ سِوَى مِسَاحَةٍ فَارِغَة أمَارِسُ بِهَا الفَقْدْ، وعَنْ قَرِيبٍ سأفْقِدُنِي وأفْقِدُ هَويَّتِي وانْتِمَائِي لأصْبِحَ مُجرّدَ علاَمَةِ تَعَجُّبٍ بِبلاَدِ المَنْفَى، أبِيعُ رَغِيفَ الحُزْن لِشحَّاذِ الوَجَعْ وأسْكِنَ جُرْحًا بِي لا يَكُّفُ عَنِ الصّرَاخِ و العَوِيلْ ..
ومَازَلت قَلائِدُ الشَّوقِ تَخْنُقنِي وتُحِيطُ جِيدَ الفقْد مُنذْ أنْ وَطَأ الغِيَاب عُتْبَة الوِصَال .. وفِي قَلِبِي ألَمُ كَبِير يَمْتَدُّ مِن المَوْتِ للمِيلاَدْ مُتوَّجٌ بِسِلْسِلة خَيَبَاتٍ وحُلُمٍ سَبَقَ طَيْفَهُ فانْكَسَرْتُ فَوْقَ أمْوَاجِهِ شَظَايَا أشْجَانْ.
يَا ألَمِي المُتَوَهّجُ فِي رُوحي، أوْغَلْتَني فِي مَتَاهَةِ ضَيَاعٍ لا نِهَايَة لمُنْعَطَفَاتِهَا ولاَ دَلِيلٍ يَدُلُّنِي عَلى مخَارجِهَا، رمَيْتَنِي بِحَفْنَة أشْوَاكٍ تُدْمِينِي ولاَ بَلْسَم أمْلِكُ لِيُضمّدَنِي ويُشْفِينِي، وفِي طُوفَانِ الضَّياعِ تَرَكْتَنِي غَرِيقَةً أتمسَّكُ بأطْيَافِ حُلُمٍ مَسْلُوبْ، وخَرَجْتُ مِن دَوَّامَتِي بِجَسَدٍ ونِصْفِ رُوحْ وشِرْيَانٍ مُبَعْثَرٍ وابْتِسَامةٍ مَقْتُولَة، لأصْبِحَ امْرَأةً سَهْلَةَ الانْكِسَارْ، وَاهِنَةً، أنْهَكَتْهَا الحَيَاة المَطْمُورَةِ بوَحْلِ الخِيَانَة.
والآن .. بَعْدَ أنْ فقَدْتُ الأمَلَ فِي كُلّ شَيْء، وبَعْدَمَا لَمْ يَعُدْ يَهمُّنِي شَيْء، قرَّرْتُ نَحْر بَرَاءتِي، والتَّخلّي عنْ وطنيَّتي وانْتِمائِي وهويَّتِي، والإبْحِار فِي عُمْقِ الوَجَعْ نَحْوَ شُطْآنٍ مَهْجُورةٍ مِنْ كُلّ انْسٍ وجِنّ، وأدْخُلُ فِي سُبَاتٍ طَوِيل تَنَامُ فِيه عُيُونُ الطّفْلَةِ بِي المُبتَلّةُ بِحُلْمٍ لَمْ يَكْتَمِلْ.
ولأنّنِي امْرَأةٌ تُصَادِقُ الغُرَبَاء وتَشْتهِي المَنَافِي وتُحِبُّ رُكُوب القِطَارَاتْ وحَمْل حَقائِب السّفرْ وبَعْدَ أنْ شَنَقْتُ غُصْنَ الأمَلْ سَأرْحَلُ وأغِيبُ حَيْثُ الأشْيَاء لاَ تَعُودُ
اعْذُرُونِي فقِطَارُ الرَّحِيل بَلَغَ محطَّتِي ولاَ مَجَال لتأخِير الرّحْلَة، واعْذُرُونِي لأنّنِي سأكْسِرُ القَلَمْ وأمزّقُ الوَرَقْ فأنَا لاَ أصْلُح للكِتَابة، فاليَرَاعُ قَدْ شَاخَ بأحْزَانِي، وأشْجَانِي التِي شِخْتُ بِهَا، أردتْنِي امْرأةً فَوْقَ الخَمْسِينْ وأنَا مُجرَّدُ فَتَاةٍ لَمْ تُكْمِل سنَّ الثَّامنة بَعْد العَشَرة.
أسْتَوْدِعُكُمْ ربّ الدَّمْعِ الذِي مَا توقَّف عنِ الانْهِمَارْ .. وتَذَّكَّرُونِي كُلَّمَا عَانقتْ أعْيُنُكُمْ أرْدِيَة أحْرُفِي.
بقلم: مَجْدْ الأمّة
كُتِبَتْ يَوْمْ 23\01\2010م