المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : دنيا .. قصة لفيصل الزوايدي


فيصل الزوايدي
01/05/2010, 01:20 PM
دنيا..؟
لم أدرك ليلتها ممّا كان ضحكُها المتواصلُ ..
أدهشني أيضًا إقبالُها عليّ ..لكنَّها كانت ليلة..
أخذت ترتدي ثيابَها ثــم قالت وهي تغلِق حقيبة يدها الصغيرة : إنّي عنكَ راحلة.. هزَّني قولُها كأني لَم أكُن أعلم حقا أنها راحلة ، فسألتها بتوسّلٍ قلِقٍ : لِمَ قلتِ هذا؟
لم تجبني ، اكتفت شفتاها بابتسامةٍ غامضةٍ ،
حاولت النومَ بعدها .. أصواتُ الحياةِ تتصاعدُ مبهمة إلى النافذةِ ..
تقلَّبتُ كثيرًا ..تــناومتُ ..إحساسٌ بالخطَرِ حفَّزني فأبت عيناي إلا انفتاحًا ..رُحتُ أتذكَّر جملتها الأخيرةَ : ما معنى الرحيل ؟ و رحيل مَن ، إلـى مَن ؟ لعلَّها دعابةٌ ، لكنَّني أعرف دُنيا ، لا تفكهُ إلا جدّا . انعكاساتُ الأضواءِ على السَّقفِ ، خيالاتٌ مِن حياةٍ باهتةٍ و أشباحٌ تمرُّ سِراعًا و أنا على فراشِ الحَيرةِ ..
انتبهتُ فجأةً إلى السَّاعةِ التي شغلَتها دُنيا ، عقاربُها تتكتِكُ ، كم أكرهُ صوتها ، لا أدري كيف غفلتُ عنها ، عادةً كنتُ أعطلُها حالَ خروجِ دنيا ، كيف نسيتها ليلَتَها ؟ هل احتاجُ معرفةَ الزَّمَنِ في ليلتي هذه ؟ دقاتُ العَقربِ تلسعُني ، كلُّ ثانيةٍ تُنقِصُني ، أَوقَفتُ الساعةَ بعنفٍ ، الثالثةُ و النصف صباحًا ..لِمَ أصبحَ الصمتُ ساعتَها خانقًا ،
لَم أعرف كيفَ أمضيتُ ليلَتي ، لكنَّني أفقتُ صباحًا فأدركتُ أنَّني نِمتُ ، تذكَّرتُ دنيا فاندفع وجيبٌ خاطفٌ بينَ صُدغَيّ ، هل تتصلُ ؟ هل تَأتي ؟
ازدادت حَيرَتي ، اتجهتُ إلى المرآة : أدهشَـتْنِي حُمرةُ عَينَيّ و أزعجني اصفرارُ وجهي ، و رأيتُ في الصفحةِ أمامي صبيًّا يسـأَلُ أباه : أَبتي ، كيف وُلِدتُ ؟ أجابَه بصفعةٍ على خَدِّهِ و ارتسمَت قطرةٌ براقةٌ في مُؤقِه رفضت النزولَ ..
عاودَتنِي الحرارةُ بعينَيّ ، أدَمتُ النَّظرَ إلى المرآة و سألتُ الشَّاخِصَ أمامـي عابثًا أو جادًّا : أيُّنا أَنَــا ؟
فابتسمَ بحُزنٍ و أشارَ إلى نفسِه ..انتَزَعتُني مِن أمامِ المرآة و عُــدتُ إلى السَّاعَةِ اللعينةِ و عقاربِها المتوقفةِ .. و دنيا لَم تَعُد و لم تتصل .. قالت إنِّي عنكَ راحلة ..
أحسستُ ثِقَلَ الهواءِ ، فككتُ زِرّينِ أعلى القميصِ و مسحتُ بكفِّي رقبَتِي .. هبَّ نسيمٌ باردٌ جافٌ حولي .. لَبِستُ بياضَ ثوبي و سِرتُ نحو المحطةِ ، فـي الطريقِ كان شابٌ يــعاكِسُ باضطرابٍ فتاةً تريدُ الاستجابةَ باضطرابٍ أيضًا .. وَصلتُ .. كانت السكةُ وحيدةً قاسيةً .. التفتُّ ورائي : لعـــلَّ دنيا تبحثُ عنِّي .. اصطَدَمَني الفراغُ فانكسرَ في النفسِ شيءٌ .. و على إحــدى الشُّرُفاتِ المجاورةِ كانت امرأةٌ مترهِّلَةُ الجِسمِ في ملابس صَيفِيَّةٍ زاهِيَةِ الألوانِ ، تكشِف ذلكَ الـجسمَ المُنهَكَ كأنَّما لَفَظَه الزَّمن بعد أن اِستَوفاه .. ارتفَعَت جلبةٌ حادةٌ يتبعُها قطارٌ أسودُ رهيبٌ ، و دُقَّ ناقوسٌ فارتعدتُ و التفتُّ باحثًا عن دنيا للمرَّةِ الأخيرةِ .. لِمَ لَم تقل أين هي راحِلة؟ ظَلَلتُ أردِّدُ السؤالَ دون انتباهٍ ، و ارتقت رِجلايَ درجاتِ سُلَّمِ العربةِ بلا مُبـالاةٍ .. وجدتُني أمامَ زجاجِ النَّافذةِ و لَمَحتُ انعكاسًا لصورٍ : صــورةٌ لغرفةٍ تُشبِه غرفةَ نومي .. نعم لـقد اختلفت بعض التفصيلاتِ : باقةُ الأزهارِ حذوَ فراشي حلَّت محلَّها ساعةٌ كبيرةٌ و عقاربُها كبيرةٌ ، الستائرُ الأرجوانيةُ استُبدِلَت بأُخرى بُنِّيةٍ .. لكـنَّها تُشبِه غرفتي كثيرًا ، تحرَّكَ بداخلِها شبَحانِ .. تبَيَّنتُ في الأَولِ رجلا لَم أَرَه مِن قَبل ، كان يجلِسُ كجِلسَتي و يتحدَّث بمثلِ حديثي و هو يَـفرُكُ جبينَهُ كما أفعلُ تمامًا .. و تبيَّنتُ في الشَّبحِ الثاني دُنيا .. هي دُنيا ، بنفس فتنتِها و ضَحِكِها و نَهَمِها .. في تلك اللحظةِ دخلَ القطارُ نفقًا أسودَ مظلِمًا و ارتفعَ صوتٌ موجِعٌ كالوَلولَةِ .. أدركتُ متألِّـمًا ساعتَها أنني أنا كنتُ الرّاحل ...

فـيصل الـــزوايدي

إيمان بنت عبد الله
01/05/2010, 09:47 PM
هكذا كل الليالي في حضور الرحيلِ !


لا تنتهي ..



فيصل .. نعمتْ العودةُ هذه .



/



إيمَان

ذكرى بنت أحمد
02/05/2010, 12:29 AM
ضيَاع ، وحزنْ مشرئب
منذُ بداية ضحكها المتَواصِل / وحتّى لحظَة رحيلك !

فيصَل :
جميلة جداً هذهِ الإطلالة : )
أسعدنَا دوماً بها ،
:rose:

ليلى العيسى
02/05/2010, 09:51 PM
نبحثُ عنها يا فيصلْ حتى آخر رمقٍ
حتى أوّل الرّحيلْ
إنها فانية و نحنُ راحلونْ ،
ماتِعةٌ القراءةُ لك يا ابن الخضراءْ سيما و أن لكَ نهجًا في القصّ
بالغَ الفِتنة ،
دُمتَ .. حاضرًا ،!

فتحية الشبلي
04/05/2010, 05:36 PM
فيصل الزوايدي ...

عوداً حميداً لإملاءتك المطرية أولاً
ثانياً لامجال لأي تعليق أمام قاصً يجيد صياغة الكلمات كـ أنت
لي شرف المرور من بساتين حرفكٌ الشهية

كُنْ بخير يا جار

احترامي