المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : اشراقة وجد للوح سومري


حسام زيدان
10/08/2010, 01:48 PM
يفرك أصابع يده الخمس المغلفة بألم صدره المتوشحة بالصمت ، يقربها من شفتيه العطشى لتراتيل السماء ، ينفث فيها و يستوقف الوجع على طرقات أفق الأمل . أَضواء بعيدة تركل الفراغ و الوحشة بعد أن تاهت نظراته في سواد المكان ، أنها تلمع بين الحين و الأخر كجنود جيش الإنقاذ يستنجدون من ظلهم الأبيض حين تركوا أخر بنادقهم و غادروا فلسطين و هربوا ، و الطريق لازال يلهث و يرمي ثقله على عجلات الحافلة التي تغسل خيوطه بزخات من سيل الرغبة في قطعه قبل أن ينحدر الليل مودعاً .

يضم وجهه المعفر بتكسر الأمنيات، بعد أن أكتشف أن جميع الركاب نيام ، و وحده السائق يثرثر لفترات متقطعة مع مساعده ، فيتكئ على بحة مواويل موشومة بفرط أرق عينيه و يمسد لحيته التي أمست متناثرة بفوضى و يلجأ لأحد المقاعد المتأخرة بالحافلة .

مد رأسه كتيس عجوز من أعلى مسند الكرسي المقابل لم يلحظ سوى نفسه متسمراً كأنه قطعة من الوجود انفلتت من الليل لتمارس طقوس السحر الخاص بهذه السفرة الممتدة حتى ما قبل الشروق بساعة .

أطل عليه الفجر وهو معتكف يتقاسم مع الجان أمسياتهم ، و يحملق كالأبله في ظل تائه و أنين الحافلة و مكابحها الوقحة عند كل منعطف ، و يفتح للشيطان وصعاليك الليل مقامرة جديدة ، ويمنح فتيل الاشتعال الاتقاد ، ويقامر على أنه لن يتعب و أنه الصنديد و أنه الأقوى، و يجهد نفسه أن لا يذكر اسمها و رائحة قلبيهما في شتاء سحب منه أخر رصيد الأمل .

كأن الرحلة لم تبدأ منذ ساعتين، كأنها بدأت منذ خطت الشمس قنطرة وطن على تجاويف جلده ، كأنها رحلة البدء منذ بسملة العابرين على براعم شعر ذقنه عندما أغلق أخر كتاب في الثانوية العامة ، و انطلق في رحاب الجامعة ليكتشف فسحة المرمر في نداء أفق نسجته أجنحة طروادة .

استرق أثر الزنجبيل وهو يفرك خلايا جسده بقشعريرة ، فاستدرك الندى الذي هبط فجأة على رؤوس أصابعه و أطراف روحه العبقة بزنبقة تتلوى مرتفعة في حضرة روحه و ها هو يشتعل سريعاً ، جنوناً .. انهياراً .. صعيقاً .. دفئاً ..خطايا .. ، فجر تنهيدة و الغبش على نافذة الحافلة مازال يكسر الأضواء السريعة المتلاحقة لما يبدو أنها قرية صغيرة غفت على استنشاق العطر المتجمع على أطراف ريشها الناعم كغطاء لوطن ما ، فأعادت لشادي صورة ظل كان يطارده في مدائن النجم منذ أول رسالة استلمها من أميرة ، كانت رداً على رسالته الأولى و قد التقط عنوانها من صفحة مجلة ممزقة لا يعرف حتى الآن ما اسم تلك المجلة و لا حتى تاريخها .

فحاول ان يعيد استنطاق الأحرف من جديد : جملتان في تلك الرسالة أثارت انتباهه، ( بحثت في كل الرسائل التي وصلتني عن كلمة إنسان فلم أجدها إلا في رسالتك ).

ابتسم ابتسامة خفيفة فسرى نور طفيف في الجهة المواربة للضلع الأيسر ، و أدار وجهه نحو ردهة القلب فضج الصمت واخترق النافذة، و حلق في فضاء باب الأفصاح و أهدى أخر نجمات الليل كل الاعترافات .

يتحسس غصة عالقة في صدره ، سنوات مرت على هذه الرسالة و ما زال أريجها يعبق و يعبق حتى ملأ فضاء الحافلة ليندلق صهيل الجمان في كل مكان ـ فأستعاد صوتاًُ لم يسمعه ، وملامح فتاة لم يرها ، لكنه مع ذلك كتب لها عشرات الرسائل ، و ردت عليه بمثلها ، و في كل رسالة حكاية ، و في كل رد وجه فتاة تزداد تألقاً ، فترك باب الذاكرة نصف مفتوح كبيت تعوي ساحته في هدوء الخرائب .

في منتصف نبض رسائلها كانت تحدثه عن بحرها الذي يغفو كل ليلة كجرح غائر على شاطئ طرطوس ، فهو المكان الوحيد الذي يسرقه قسراً من قطرات المطر فيألفه، و هو المكان الوحيد الذي يعسكر بجند الطمأنينة في قلبه ، حدثته عن مقاهي المدينة التي لا تبيع روادها لخفافيش الملل ، فتوزع الجمال و المرجان حتى لا يضيع و يتقلص كما في مدن أخرى حل بها خراب الجمال فاعترتها الفتنة في الوجوه و الأجساد .

حدثته عن الجمال كراهب من دير قديم ، يتوشح قمة الهدوء حين يرغب القمر في التكور حول موانئ تأكلها العيون في زحام الحياة ، و حين تنجرف ملامح الأصالة العذبة ، يغدو الواقع أصعب مما يمكن لفرد أن يتحمله .

هاهي حمص تبتعد خلف الحافلة ، وهي تزحف على أرض حريرية اللين ، و شقائق أول النهار أخذت تمتزج بالعتمة فتتبدد آخر التثاؤبات المتعبة بلوحة ليلكية ، وينهض القلب ككون من البرد، و صوت فيروز جاء هادئاً ينسل بين الركاب النائمين و كأنه فر من معصم ذاك الكون ، إنه يختلس فرصة أولى للهروب ، كأنثى غجرية تغادر شلالات الشمس ، و على صدرها فجوات كبرياء ، تنساب الأغنية و تتسلل مدهشة في هدوئها منقوشة بجياد مخملية مغمورة بماء الجنة ..

( أهواك بلا أمل .. و عيونك تبتسم لي … و وردك تغريني بشهيات القبل….. )

أعادته الأغنية سنة إلى الوراء لتلوك سهاماً من سندس اغتالته يوم سمعها أول مرة .. و قد فرَّغ النجوم عناقيداً على أناملها حين أرسلها إلى أميرة، و قد أخبرها في ذات رسالة أن جواد القراءة قد حزم آخر أعمال إبراهيم نصر الله ، و شق الستار عن بحته الشتوية التي تنمو في كلماته ، فأنهاها جميعها.

على شفتيه ترانيم لبعض الجمل التي كانت تغنيها فيروز ، فتلفح وجه الوميض ، و تمسك مقبض ريح الشمال ، فيرفع رأسه قليلاً ويبحث في وجوه الركاب ،فجالت عينيه تتشابك مع ضيق المساحة ، فشعر نفسه كرقم سومري قديم عندما رأى فتاة أمامه تتكئ على كتف شاب بجانبها كأنها طفلة بروحها الناسكة و قد غطا في نوم عميق ، و قد فردت الفتاة شعرها الداكن فغطى القلب بدفء شفيف كأنه شمس تجتاح سماء كتفه ، فلا ضجيج يعكر صفو سكينتهما .. ابتسم دون أن تتحرك شفتاه.

نظر إلى مقدمة الحافلة ، السائق يرشف قليلاً من القهوة فيصدر صوتاً وكأنه يرتشف جوف الماء و تتهاوى صروح الكوب ، فتمنى لو أنه يحصل على كوب منها و بدأ يسقط رذاذها على فمه و تتشكل أمامه ، إذ لا يعادل متعة القهوة و فيروز و هذا الفجر الساحر سوى قرب اللقاء مع فتاة يكن لها كل … فيسقط رماد سيجارته على بنطاله ويشكل خارطة من رماد .

كل ماذا ؟ تساءل وقد خفق قلبه ، فبعض الأفكار تمر على عقله كطيور مقصوصة الريش ، تتساقط وهي لا تحمل سوى صوت فيروز و تتلو على نفسها تعويذة السلام .

-إنك لم تراها مطلقاً .. و لا تعرف عن تفاصيل ضفيرتها التي أمسكت الانتظار كغزالة شاردة دون تفكير..

- نعم أنت تعرف أنها فيروز و القهوة و سيجارتي الشقراء و صباحات البحرالمتوثبة على حدود القلب بوشاحها الأبيض و هي ترمم بوابات الشتاء.. تعرف كل ذلك ..

- لا بأس، و لكن وماذا بعد ؟ إنها أكثر من أن تكون أحرف رسالة كتبت بقلم من نور ، أو أغنية تعلن قدوم عرس الشتاء أو مجرد قصاصة ورق بيضاء تعج بريح الجنوب لحظة انهمار الفرح ، وهو يقفز من بين السطور ( لقد قرأت قصيدة أفرحتني ، جعلت قلبي يقفز كطفل صغير أمام لعبة جميلة ، هي للشاعر محمود درويش .. أعدت قراءتها مرات عدة ! إن البحث عن قصيدة جميلة يعدل البحث عن السعادة).

لقد قرأتها أنا أيضاً .. رد بصمت ، و ها هي روح تشنق أخر رغبة في قضم أرنبة الأفكار التي تحاصر وميض وجهها ، وبدأ يبعد الأفكار الماجنة عن رأسه ، و يمسك بدفة كلمات تلك القصيدة كأنه يقرؤها لأول مرة ، و بدأ يشتم رائحة حريق ورق ذاكرته ، و فرقعة أصابعه تمنح وجهه العابس المزيد من الهدوء .. فالوجوه تنبئ بما في القلب دائماً .. فضجيج الصمت والسخط والتعب جميعها تخيم على عقله ، فبدأ يغازل جسم نور الشمس و يغمس حروفاً يتمتم بها بابتسامة مخيفة، ويمضغ كلماتها ببطء ( أنا لا أحمل قلباً في صدري أنا أحمل امرأة سمراء بطعم البرتقال ، و بارتفاع أغصان الزيتون ) .. لم تتركه الأفكار وحده، بل قررت أن تنال منه كي.. فعادت إلى الهجوم لتسرق ابتسامته المخيفة المغلفة بالسكينة ، فتذكر قول صديقه ثائر أنه لوح سومري قديم ، فضحك من الصورة و اعتبره نوع من الفكاهة التي ستقاوم تلك الأفكار التي كانت تنشب أظافرها في عمق رأسه ، فتمتم : نعم أنا أقف الآن في بلاط ملكي إغريفي كلوح سومري و تلثمني أعين أفروديت .

بدأ الشفق المبحر في دمه يبتلع أضواء القرى المتناثرة التي تجوب جانبي الطريق بكسل. استفاق بعض الركاب و رفعوا رؤوسهم يحركونها من تيبس أو استطلاعاً للمكان أو الوقت كتسابيح ملاك فقد عينه بعد أن استوى على عرش الموت المؤقت ، و كثير منهم عاد ليغط في شخير فظ مزعج على زند الكرسي ، لكن فارسا بقي في جزيرة صمت ، فالأصوات التي ترسم خرائط هندسية بالقرب من أرواحنا طاغية ، فبعد قليل سيكون على شاطئ طرطوس ، و سيكون اللقاء مع أميرة بعد سنوات من المعرفة عبر ساعي البريد ، فبدأ يدهن غصة الحلم و شوارع الأمل بقوة الحياة ليفوز بلقائها .

إن أميرة مولعة بالتاريخ و بأفكار هيجل و تلعن أرسطو المسروق بخمرة الموت و تحسد غابات بوليفيا على خطوات أرنستو ، لقد أثارت فضوله عندما كتبت إليه في إحدى الرسائل ( كم تحتاج إلى أفاميا جديدة تنزرع في كل مدينة و قرية فتثبت عبر التاريخ قصص حب ملهمة للاجيال تحافظ دائما على هدوء الروح و القلب نظيفاً معافى ) و باغتته بسؤاله ( هل قرأت أسطورة بيرم و تسبين البابلية ) نعم هذا هو السؤال الذي يجعله يهوى العابرين على مرايا انعكاس الحياة و ينشلونه من إحباط الرؤية .

و حين قرأ تلك الأسطورة أدرك بعد حنق و ابتسامة سخرية سوداء مردداً ، كم كان شكسبير من أئمة الجان و مقلداً لطيفاً لتلك الأسطورة في ( روميو و جولييت ) ، فاشتعل الزنبق في دمه ، يخفق قلبه بشدة ،و بدأ ينزل بجسده قليلاً عن المقعد المتحجر تحته ، يمد ذراعيه كأنهما جسر بين واديين ليلتقيا ، تحاول نجمة بعيدة أن تثبت وجودها في حضرة الضوء ، فتلتمع لمعاناً باهتة إذ يغلبها تكتل زحام العابرين تحتها ، فتذوي النجمة كغيث اله رحيم ، يذبل ألقها كأنه وجه مغسول بماء فاتر، و قد أدرك أنه لا بد لضوء آخر أن يفلت من جنبات الكون كغابات من البيلسان محترقة .

ازهار الرمان كغيم أشقر العينين تحف المدى و هو يرى الأفق أكثر اشتعالاً بعبق التذكر ، و فيروز وحدها تحفر حنين السماء الصامتة و هي تسترد الصدى و تدغدغ كف الروح ( أهواك و لي قلب … بغرامك ملتهب .. تدنيه فيقترب .. في الظلمة يكتئب .. و يهدهده التعب .. فيذوب و ينسكب كالدمع من المقل ) أدرك الآن و قد اخترقه هذا اللحن الفيروزي الجميل أن أميرة نافذة السماء البيضاء التي تسقط القمح على قلوب الفقراء و هي وجه لبحر لم يغتسل بماءه ، و أنها زخرفة فينيقية لمعبد ظلت عشتار تحرسه فتنفجر فيه الدماء حباً و خصباً ، أدرك الآن أن أميرة جزء من حكايا تتدفق في مجرى روحه .

تنفست الأرض براحة تحت عجلات الحافلة ، هبط فارس و قد أزهر بصدره زيزفون ، نظر الى ساعته ، ما زال الوقت مبكراً ، المدينة نائمة بهدوء مشرعة للريح ما عدا بضعة رجال تفرقوا في الشارع الطويل ارتشفتهم عين فارس بشكل سريع .

تصطك الدقائق ببعضها لتقضم الزمن الذي يفصله عن الموعد ، ثمة رمال ترسم على ضفاف واقع الحياة الرتيبة نوراً يليق بها ، الأن بدأ يؤرخ لصفحة جديدة منذ أن وطئت قدماه الأرض بعد ساعات من سفر الذكريات و الحنين و الاشتعال .

كأنه الآن يرتدي طرطوس بريحانها و يلقن عصافيرها شذى البحر … شوارعها غافية على زند أسمر ..بيوتها كنور من مرمر.. أسواقها تمنح العاشقين جاردينيا الجنين و بحرها الذي يصطخب الآن يرتل بسملة الشمس التي ترسم على سطح الماء ياقوت الربيع و كأنه يستعيد صدى عطر الطفولة و هي تحمل الحنين للولادة المقبلة و تكسب على شفافه توابل الهند و بخور فاس .

تنهد كريح سمراء تلكز براعم السؤال في عقله : قالت : إنها ستنتظر عند المقعد الرابع بعد مسبح الشاطئ ، لكن كيف سأعرفها ، كيف سأخاطبها ، ماذا سنقول ؟ ارتعشت الكلمات الأخيرة في فمه كخيط دم سال على ظهر جواد ،ثم عاد للتساؤل : كيف هو شكلها ؟ عيناها .. شعرها.. يداها ؟ ثم ابتسم ابتسامة خفيفة و صهل دمه شوقاً لها و طمأن نفسه : سأعرفها .. من بعيد .. عندما ألمحها .. سأعرفها .. و إذا ما ترددت لحظة فسوف أعود .. نعم سأعود من حيث أتيت .

الشوارع مغموسة بالسكون .. تطل الأبنية وهي تمضغ ترف الارتفاع في الاسمنت الاحمق ، و في أذنيه يصطخب الموج رغم هدوء البحر .. في الثامنة تماماً كان يقف أمام المقعد الرابع ، ولا يعرف في أي اتجاه ستقذفه سفينة نوح من جديد … يلتفت نحو الشرق ..

يرن هاتفه المحمول ممزوج بعبق موسيقى خوليو اغليسياس فيستيقظ من نومه ، يتكئ على حافة السرير و يضمد روحه من حلم غدر به الوقت و استيقظ قبل ان يراها ، تساقطت أخر اوراق الزيتون على روحه ، رمق الساعة بيده كانت ما تزال عند السابعة ، وبدأ يردد ما أتعس انتظارها وحتى بالحلم تضرم نار الفشل ، ما أقسى أن تزق شرايينك احلام تبعث بك الى الجنون و الانهيار و مخازن السكر في نفس الوقت ، حتى احلامنا لا تملك وسادات مخملية ولا ممالك و دفء ..

أعد قهوته الصباحية ، فتح نوافذ غرفته ، بدأ يعد غنائم روحه بعد ذاك الحلم ، فاكتشف أنه ينهش عذرية الصباح ، و يردد : ما أعظم سرقة الفرح و ما أقسى أن تكون فاقد الوطن و الحلم .

صبا خالد
10/08/2010, 06:27 PM
ترنّح بين الحلم والفقد
جميعها تتربّص بالفؤاد ..
تهوى بِـ الإنسان إلى غياهب حَنين لا خلاص منه .!

كُن بخير دائماً ,
وفَرح

ذكرى بنت أحمد
11/08/2010, 11:42 PM
يردد : ما أعظم سرقة الفرح و ما أقسى أن تكون فاقد الوطن و الحلم !
ما أعظم سرقة الفرح و ما أقسى أن تكون فاقد الوطن و الحلم !
ما أعظم سرقة الفرح و ما أقسى أن تكون فاقد الوطن و الحلم !
.
سرقةُ الفرح ليستْ كأيّ سرقة ،
جميلٌ هذا النص منذُ أن كان يفركُ أصابعه الخمسة ، ويضمّ وجههُ بيدَيه ،
وحتّى هَمسَاته الأخيرة . .
حسَام ،
أبحرتَ بنا بطريقةٍ لا تُشبه سِوااكْ ,
كنْ بفرحٍ لا يزول رجاءً !
:rose: