جمعة الفاخري
29/08/2011, 08:40 PM
سطرُ روايتي الأخيرُ
قصَّة / جمعة الفاخري*
1
أَوْرَاقٌ تُطْوَى .. رِوَايَةٌ تَكْتَمِلُ .. وَطَاغِيَةٌ يَمُوْتُ ..
2
حينَ كانتِ الشَّمْسُ المحمَّلةُ بحمرةِ الغروبِ تُلقي بجسدِها البرتقاليِّ في شساعةِ بحرٍ أسودَ مضطربٍ فيما يُشْبِهُ احْتِجَاجَ الْمُنْتَحِرِ ، كنُتُ حينَها أضعُ السَّطرَ الأخيرَ في روايتي .. نفثْتُ زفرةً حرَّى .. أَغمضْتُ عينيَّ وارتميْتُ على الكرسيِّ تاركًا ابتسامتي تشرحُ للمرايا سِرَّ انتشائي العميمِ ..
صحوْتُ بعدَ إغفاءِةِ فرحٍ لذيذٍ .. قفزتُ لألتقطَ الرِّوايةَ .. بدأتُ أُعيدُ قراءَتها منذُ المغربِ حتَّى مطلعِ الفجرِ .. تلذَّذتُ بسردِهَا الماتعِ .. سارحًا معَ أحداثِها ، مُحَاولاً تفسيرَ بعضِ أسرارِها التي تتمَاهى معَ الواقعِ بشكلٍ أسطوريٍّ لا يُصَدَّقُ .. فقد كنْتُ كلَّمَا تخيَّلْتُ حدثًا ما وكتبْتُهُ ، يتجسَّدُ حقيقةً في اليومِ التَّالي مباشرةً .. فأسمعُهُ خبرًا عاجلاً عبرَ وسائلِ الإعلامِ.. كنتُ غيرَ مصدِّقٍ لما يحدثُ .. حتى أنَّي صرتُ أشكُّ في عقلي .. كأنني غدَوْتُ إِنسانًا مجنونًا منفصلاً عن عالَمِهِ .. مثلاً أكتبُ في الرِّوايَةِ أخبارًا متخيَّلةً عن قيامِ مظاهراتٍ ، أو إلقاءِ خطاباتٍ سياسيَّةٍ لقادةٍ وساسَةٍ ومشاهيرَ .. أو أتوقَّعُ انعقادَ اجتماعاتٍ مهمَّةٍ .. أو تكوُّنَ أحلافٍ عسكريَّةٍ كبيرةٍ ، أو إنشاءَ تكتلاتٍ اقتصاديَّةٍ .. أو حدوثَ انقلاباتٍ عسكريَّةٍ في بلدٍ ما .. ظلَّ خيالي الخلاَّقُ ينسجُ في روايتي كلَّ الأحداثِ التي يمكنُ أن تحدثَ على الكرةِ الأرضيَّةِ ، ثمَّ ألمسُهَا بعدَ ذلكَ واقعًا كأنني من أصنعُهَا ..!
في الفصلِ الأخيرِ ماتَ بطلُ روايتي الطَّاغيةُ .. ففرحْتُ فرحتينِ ؛ لأنَّهُ ماتَ ، ولأنَّ روايتي اكتمَلَتْ بموتِهِ .. فقد حَطَطْتُ عن قلبي وزرَ عشرينَ عامًا منَ العذابِ ، وأنا أنسجُ خيوطَهَا ، وأرسمُ مشاهِدَها ، وَأُنَسِّقُ مَوَاقِفَهَا ، مجتهدًا في سَبْكِ أحداثِهَا بلغَةٍ فارهةٍ آسرةٍ .. كنتُ أودُّ أَنْ أُمِيتَهُ منَ السَّطرِ الأوَّلِ لولا ضَرورَاتُ الحبكةِ ، وَدواعي التَّشويقِ.
3
أخيرًا مَاتَ طَاغيةٌ ظلَّ يجثمُ على صدري كاتمًا أنفَاسي عشرينَ عامًا .. سبعةَ آلافٍ وثلاثَ مئةِ وعشرينَ يومًا وأنا أُصَارِعُ هذا السَّفَّاحَ .. أعيشُ بوجداني عذاباتِ تنكيلِهِ البشعِ بشعبِهِ .. أَصُبُّ على وحشيَّتِهِ العفنَةِ جَامَ لَعْنَاتي .. أنامُ وأنا أَلْعنُهُ .. وأصحو لأبتدئَ نهارِيَ بلعنِهِ .. كلَّ يومٍ أخترعُ لَهُ لعنةً مختلفةً ..حتَّى أَلَّفْتُ لفخامتِهِ قاموسًا ضخمًا منَ اللَّعنِ يليقُ بجاهَمتِهِ وغطرستِهِ وطغيانِهِ .. لقد أَزهَقَ أرواحًا بريئةً كثيرةً .. واستبدَّ بسلطتِهِ وجبروتهِ على خمسينَ مليونِ إنسانٍ من شعبِهِ الطيِّبِ المسَالمِ ..
حينَ فَرَغْتُ من كتابةِ السَّطرِ الأخيرِ فيها .. وَضَعْتُ الرِّوَايَةَ في أحدِ أرففِ المكتبَةِ .. ووقفْتُ أنظرُ إليها .. بدَتْ لي قبرًا يطبقُ فكِّيهِ على الطَّاغيةِ بإحْكِامٍ .. هُيَّأ لي أنِّي أسمعُ أنَّاتِهِ تتسلَّلُ من تضاعيفِ الرِّوَايةِ .. سعدْتُ لأنني اقتصصْتُ منه لشعبي المسكينِ الذي ظلَّ عشرينَ عامًا يئنُّ تحتَ ظلمِهِ وطغيانِهِ .. سيسعَدُ أبناءُ شَعْبي كثيرًا ببطولتي الخارِقَةِ .. فقد أنهيْتُ كابوسَ الاَستعلاءِ المُنكَرِ بتحنيطِهِ بينَ دَفِّتي رِوَايتي .. كم هو مدهشٌ أن أستطيعَ تقديمَ هذا الصَّنيعِ المثاليِّ لشعبِي ، سيكرِّمُونني كأيِّ عظيمٍ .. وَقد يُنَصِّبُونني رئيسًا .. فأنا من اجتثثْتُ الطَّاغِيةَ منهيًا حُقبةً سودَاءَ منَ الظلمِ والعسفِ والجورِ والاستبدادِ..
4
بدا لي عاجزًا وضعيفًا ، وَمُهَانًا ، وأكثرَ تفاهةً من ذي قبلٍ .. بصقْتُ باتجَاهِهِ .. وَحَيِّيْتُ إِرَادَةَ شعبي التي اجتثَّتُهُ على سِنِّ قلمي .. لقد جمَّعتُ عفونَةَ التَّاريخِ في هذا المستبدِّ الغشومِ ، وحشرتُها بينَ دَفَّتي الرِّوايَةِ .. خيِّلَ لي أنَّ العفونَةَ تتسرَّبُ منها كلَّما تذكرتْهُ .. مسكينٌ ذاكَ السفِّاحُ الأثيمُ ، فهو الآنَ مغلولٌ بينَ سطوري .. مدفونٌ في تجاويفِ روايتي .. لا حولَ لَهُ ولا سلطةَ ..!!
5
خطوتُ إلى النَّافذَةِ لأستنشقَ هَوَاءً نَقيًّا ، وأنعمَ بحريَّةٍ حُرِمْتُ منها عشرينَ عامًا .. من على جدارِ العمَارَةِ الضخمَةِ كانت صورتُهُ الكبيرَةِ تسقطُ بنفسِهَا ، فيما تهتفُ الجموعُ بحياةِ الشَّعْبِ .. وتتهجَّى وَجْهَ الحرَّيَّةِ النَّاعِمَ الْوَسِيْمَ ..
نظرْتُ إلى صُوْرَتِهِ تتهَاوَى .. تتهشَّمُ .. فيما هُتَافُ الجمَاهيرِ مواويلُ فرحٍ .. وَزَغاريدُ انعتَاقٍ .. وأنا زَهْوٌ عَارِمٌ ، وانطلاقٌ بلا حدودٍ ..
6
في سجنُ رِوَايتي طَاغِيَةٌ يتلاشى .. وعذابٌ ينقشعُ..
أوصدَتُ البابَ بالمفتاحِ خوفًا من أن يهربَ .. لقد تعوَّدَ على الهروبِ ..
..........
ونمْتُ ..
7
في الصَّبَاحِ فتحتُ التلفزيونَ ، بعدَ موسيقاهُ المزعِجَةِ كانت نَشْرَةُ الأخبَارِ تُعْلِنُ خبرًا أَوَّلَ مفَادُهُ: ( القبضُ على مُرَوِّجِ إشاعاتٍ كبيرٍ ، ظلَّت قوَّاتُ الأَمنِ تبحثُ عنهُ ؛ فهو يشيعُ كذبًا موتَ الرئيسِ.)
سمعْتُ طرقًا قويًّا على البابِ .. ثمَّ صَوتَ تهشُّمِهِ .. فاقتحَامٌ سِافِرٌ لبيتي .. قوَّةٌ مدجَّجَةٌ بالسِّلاحِ .. عَسْكرٌ غِلاظٌ شِدَادٌ يُحَاصِرُونَني .. يقبضونَ عليَّ .. يقتادونَني إلى مكانٍ بعيدٍ بالغِ العتمةِ .. استغربْتُ أنَّ هذا الحدثَ هو الوحيدُ الذي لم يكنْ في الرِّوايَةِ .. أردْتُ أَنْ أصرخَ فيهم .. ليفهموا هذا.. !!
زَجُّوا بعبقريِّتي في سِجْنٍ انفراديٍّ مظلمٍ يشبِهُ كتابًا أَسْوَدَ مُغْلَقًا .. وهم يتربِسُونَ البابَ الحديديَّ الصَّدئَ .. كان يتهيَّأُ لي أَنِّي أَسْمَعُ هُتَافَ الشَّعْبِ .. أَغَانيَهُ وَزَغَارِيْدَهُ .. وَأُحِسُّ الْجِدَارَ الأَصَمَّ يتهاوى لتنبتَ صُوْرَتي في مكانِهِ ، فيما انبعَثَتِ الشَّمْسُ الحمراءُ في مكانِ البَابِ المتدَاعي..
8
لملمْتُ روايتي بينَ يديَّ جِامعًا دفِّتيها إلى بعضِهما .. وأنا أبحثُ عن عنوانٍ لها كانَ السَّطْرُ الأخيرُ يمتثِلُ في ذاكرتي بإلحاحٍ:
" أورَاقٌ تطوى .. رِوَايَةٌ تَكْتَمِلُ .. وَطَاغِيَةٌ يموتُ .. "
طرابلس / 25/4/2010
* قاصٌّ وشاعرٌ من ليبيا.
قصَّة / جمعة الفاخري*
1
أَوْرَاقٌ تُطْوَى .. رِوَايَةٌ تَكْتَمِلُ .. وَطَاغِيَةٌ يَمُوْتُ ..
2
حينَ كانتِ الشَّمْسُ المحمَّلةُ بحمرةِ الغروبِ تُلقي بجسدِها البرتقاليِّ في شساعةِ بحرٍ أسودَ مضطربٍ فيما يُشْبِهُ احْتِجَاجَ الْمُنْتَحِرِ ، كنُتُ حينَها أضعُ السَّطرَ الأخيرَ في روايتي .. نفثْتُ زفرةً حرَّى .. أَغمضْتُ عينيَّ وارتميْتُ على الكرسيِّ تاركًا ابتسامتي تشرحُ للمرايا سِرَّ انتشائي العميمِ ..
صحوْتُ بعدَ إغفاءِةِ فرحٍ لذيذٍ .. قفزتُ لألتقطَ الرِّوايةَ .. بدأتُ أُعيدُ قراءَتها منذُ المغربِ حتَّى مطلعِ الفجرِ .. تلذَّذتُ بسردِهَا الماتعِ .. سارحًا معَ أحداثِها ، مُحَاولاً تفسيرَ بعضِ أسرارِها التي تتمَاهى معَ الواقعِ بشكلٍ أسطوريٍّ لا يُصَدَّقُ .. فقد كنْتُ كلَّمَا تخيَّلْتُ حدثًا ما وكتبْتُهُ ، يتجسَّدُ حقيقةً في اليومِ التَّالي مباشرةً .. فأسمعُهُ خبرًا عاجلاً عبرَ وسائلِ الإعلامِ.. كنتُ غيرَ مصدِّقٍ لما يحدثُ .. حتى أنَّي صرتُ أشكُّ في عقلي .. كأنني غدَوْتُ إِنسانًا مجنونًا منفصلاً عن عالَمِهِ .. مثلاً أكتبُ في الرِّوايَةِ أخبارًا متخيَّلةً عن قيامِ مظاهراتٍ ، أو إلقاءِ خطاباتٍ سياسيَّةٍ لقادةٍ وساسَةٍ ومشاهيرَ .. أو أتوقَّعُ انعقادَ اجتماعاتٍ مهمَّةٍ .. أو تكوُّنَ أحلافٍ عسكريَّةٍ كبيرةٍ ، أو إنشاءَ تكتلاتٍ اقتصاديَّةٍ .. أو حدوثَ انقلاباتٍ عسكريَّةٍ في بلدٍ ما .. ظلَّ خيالي الخلاَّقُ ينسجُ في روايتي كلَّ الأحداثِ التي يمكنُ أن تحدثَ على الكرةِ الأرضيَّةِ ، ثمَّ ألمسُهَا بعدَ ذلكَ واقعًا كأنني من أصنعُهَا ..!
في الفصلِ الأخيرِ ماتَ بطلُ روايتي الطَّاغيةُ .. ففرحْتُ فرحتينِ ؛ لأنَّهُ ماتَ ، ولأنَّ روايتي اكتمَلَتْ بموتِهِ .. فقد حَطَطْتُ عن قلبي وزرَ عشرينَ عامًا منَ العذابِ ، وأنا أنسجُ خيوطَهَا ، وأرسمُ مشاهِدَها ، وَأُنَسِّقُ مَوَاقِفَهَا ، مجتهدًا في سَبْكِ أحداثِهَا بلغَةٍ فارهةٍ آسرةٍ .. كنتُ أودُّ أَنْ أُمِيتَهُ منَ السَّطرِ الأوَّلِ لولا ضَرورَاتُ الحبكةِ ، وَدواعي التَّشويقِ.
3
أخيرًا مَاتَ طَاغيةٌ ظلَّ يجثمُ على صدري كاتمًا أنفَاسي عشرينَ عامًا .. سبعةَ آلافٍ وثلاثَ مئةِ وعشرينَ يومًا وأنا أُصَارِعُ هذا السَّفَّاحَ .. أعيشُ بوجداني عذاباتِ تنكيلِهِ البشعِ بشعبِهِ .. أَصُبُّ على وحشيَّتِهِ العفنَةِ جَامَ لَعْنَاتي .. أنامُ وأنا أَلْعنُهُ .. وأصحو لأبتدئَ نهارِيَ بلعنِهِ .. كلَّ يومٍ أخترعُ لَهُ لعنةً مختلفةً ..حتَّى أَلَّفْتُ لفخامتِهِ قاموسًا ضخمًا منَ اللَّعنِ يليقُ بجاهَمتِهِ وغطرستِهِ وطغيانِهِ .. لقد أَزهَقَ أرواحًا بريئةً كثيرةً .. واستبدَّ بسلطتِهِ وجبروتهِ على خمسينَ مليونِ إنسانٍ من شعبِهِ الطيِّبِ المسَالمِ ..
حينَ فَرَغْتُ من كتابةِ السَّطرِ الأخيرِ فيها .. وَضَعْتُ الرِّوَايَةَ في أحدِ أرففِ المكتبَةِ .. ووقفْتُ أنظرُ إليها .. بدَتْ لي قبرًا يطبقُ فكِّيهِ على الطَّاغيةِ بإحْكِامٍ .. هُيَّأ لي أنِّي أسمعُ أنَّاتِهِ تتسلَّلُ من تضاعيفِ الرِّوَايةِ .. سعدْتُ لأنني اقتصصْتُ منه لشعبي المسكينِ الذي ظلَّ عشرينَ عامًا يئنُّ تحتَ ظلمِهِ وطغيانِهِ .. سيسعَدُ أبناءُ شَعْبي كثيرًا ببطولتي الخارِقَةِ .. فقد أنهيْتُ كابوسَ الاَستعلاءِ المُنكَرِ بتحنيطِهِ بينَ دَفِّتي رِوَايتي .. كم هو مدهشٌ أن أستطيعَ تقديمَ هذا الصَّنيعِ المثاليِّ لشعبِي ، سيكرِّمُونني كأيِّ عظيمٍ .. وَقد يُنَصِّبُونني رئيسًا .. فأنا من اجتثثْتُ الطَّاغِيةَ منهيًا حُقبةً سودَاءَ منَ الظلمِ والعسفِ والجورِ والاستبدادِ..
4
بدا لي عاجزًا وضعيفًا ، وَمُهَانًا ، وأكثرَ تفاهةً من ذي قبلٍ .. بصقْتُ باتجَاهِهِ .. وَحَيِّيْتُ إِرَادَةَ شعبي التي اجتثَّتُهُ على سِنِّ قلمي .. لقد جمَّعتُ عفونَةَ التَّاريخِ في هذا المستبدِّ الغشومِ ، وحشرتُها بينَ دَفَّتي الرِّوايَةِ .. خيِّلَ لي أنَّ العفونَةَ تتسرَّبُ منها كلَّما تذكرتْهُ .. مسكينٌ ذاكَ السفِّاحُ الأثيمُ ، فهو الآنَ مغلولٌ بينَ سطوري .. مدفونٌ في تجاويفِ روايتي .. لا حولَ لَهُ ولا سلطةَ ..!!
5
خطوتُ إلى النَّافذَةِ لأستنشقَ هَوَاءً نَقيًّا ، وأنعمَ بحريَّةٍ حُرِمْتُ منها عشرينَ عامًا .. من على جدارِ العمَارَةِ الضخمَةِ كانت صورتُهُ الكبيرَةِ تسقطُ بنفسِهَا ، فيما تهتفُ الجموعُ بحياةِ الشَّعْبِ .. وتتهجَّى وَجْهَ الحرَّيَّةِ النَّاعِمَ الْوَسِيْمَ ..
نظرْتُ إلى صُوْرَتِهِ تتهَاوَى .. تتهشَّمُ .. فيما هُتَافُ الجمَاهيرِ مواويلُ فرحٍ .. وَزَغاريدُ انعتَاقٍ .. وأنا زَهْوٌ عَارِمٌ ، وانطلاقٌ بلا حدودٍ ..
6
في سجنُ رِوَايتي طَاغِيَةٌ يتلاشى .. وعذابٌ ينقشعُ..
أوصدَتُ البابَ بالمفتاحِ خوفًا من أن يهربَ .. لقد تعوَّدَ على الهروبِ ..
..........
ونمْتُ ..
7
في الصَّبَاحِ فتحتُ التلفزيونَ ، بعدَ موسيقاهُ المزعِجَةِ كانت نَشْرَةُ الأخبَارِ تُعْلِنُ خبرًا أَوَّلَ مفَادُهُ: ( القبضُ على مُرَوِّجِ إشاعاتٍ كبيرٍ ، ظلَّت قوَّاتُ الأَمنِ تبحثُ عنهُ ؛ فهو يشيعُ كذبًا موتَ الرئيسِ.)
سمعْتُ طرقًا قويًّا على البابِ .. ثمَّ صَوتَ تهشُّمِهِ .. فاقتحَامٌ سِافِرٌ لبيتي .. قوَّةٌ مدجَّجَةٌ بالسِّلاحِ .. عَسْكرٌ غِلاظٌ شِدَادٌ يُحَاصِرُونَني .. يقبضونَ عليَّ .. يقتادونَني إلى مكانٍ بعيدٍ بالغِ العتمةِ .. استغربْتُ أنَّ هذا الحدثَ هو الوحيدُ الذي لم يكنْ في الرِّوايَةِ .. أردْتُ أَنْ أصرخَ فيهم .. ليفهموا هذا.. !!
زَجُّوا بعبقريِّتي في سِجْنٍ انفراديٍّ مظلمٍ يشبِهُ كتابًا أَسْوَدَ مُغْلَقًا .. وهم يتربِسُونَ البابَ الحديديَّ الصَّدئَ .. كان يتهيَّأُ لي أَنِّي أَسْمَعُ هُتَافَ الشَّعْبِ .. أَغَانيَهُ وَزَغَارِيْدَهُ .. وَأُحِسُّ الْجِدَارَ الأَصَمَّ يتهاوى لتنبتَ صُوْرَتي في مكانِهِ ، فيما انبعَثَتِ الشَّمْسُ الحمراءُ في مكانِ البَابِ المتدَاعي..
8
لملمْتُ روايتي بينَ يديَّ جِامعًا دفِّتيها إلى بعضِهما .. وأنا أبحثُ عن عنوانٍ لها كانَ السَّطْرُ الأخيرُ يمتثِلُ في ذاكرتي بإلحاحٍ:
" أورَاقٌ تطوى .. رِوَايَةٌ تَكْتَمِلُ .. وَطَاغِيَةٌ يموتُ .. "
طرابلس / 25/4/2010
* قاصٌّ وشاعرٌ من ليبيا.