الموضوع
:
اسهار بعد اسهار
عرض مشاركة واحدة
29/10/2012, 01:50 AM
#
2
محمد رفعت الدومي
شـاعـر
من مواضيعي
*
اسهار بعد اسهار
*
ذبحتك جومانا أخيرا بشرياني
*
روعة
*
جومانا
(6)
وراحت الأيام وشوي شوي
سكت الطاحون عَ كتف المي
وجدي صار طاحون ذكريات
يطحن شمس وفي .. يا سهر الليالي ..
كانت ليالي الصيف الخالية من الأحداث ، مغلفة علي الدوام بالضجر ، تتماسك أيضاً بانكسارها الحاد مثل الوتد المتغلغل في مغارات القلب ، وتطير طرق النوم في الوقت المناسب ، فتنهار عضلة النوم تماماً ، حتي لابد من إنفاق الكثير من الجهد للدخول إلي متاهاته السائلة ، في مثل هذه الليالي يتضاءل الإحساسُ بالجمال ، ومثل هذه الليالي ، بالنسبة للقلب ، قلب الضجر ، تدعوني لأن أن أجاور انطباعات المتعة التي أعيشها في ليلة عادية بالانخراط في متاهات الوجود البديل ، بالتمدد فوق مساحات سفر الآخرين الذين تباشر عمة أبي ، تربية وجودهم في بيتنا ، أمام عينيَّ .
بمجرد اللجوء إلي وجه حنانها المدور ، ونحافتها الشديدة ، ومسحة الجمال علي وجهها التي تشي بجمال هادئ قديم ، ورائحة دهان أبوفاس التي تنبعث من ساقيها المريضتين :
- عمة فتحية ، حجي لي أمانة !
وسرعان ما أسبح علي أمواج صوتها الدافئة ، في عوالم من الذهب المرصع بمانجو الوقت ، وينخرط في سرنا الشاطر حسن ، وست الحسن ، وطيزان ، وأمنا الغولة ، وأسراب من الذئاب الشريرة والماعز الرقيقة .
تتخلخل أمواج صوتها من آن لآن ، ثم تنزلق أنة في شرخ الحكاية ، لكنها تتماسك مرة أخري ، لقد سيطر الروماتيزم علي أفق ساقيها بأكمله ، وتوحَّش حتي لم تكن أكياس عقاقيرها الكثيرة تفلح علي الدوام في تهدئة قلبه ، وكنت أتألم علي الدوام لألمها ، بل كنت أبكي لبكائها أحياناً ، وكثيراً ما خرج بكائها عن إطاره ، وتحوَّل إلي رثاء للذات ، فتصيح بصوتٍ مختنق بالدموع الحقيقية :
- لحدّْ ميتا العذاب دا يا ربِّـ .. بي ، الصليل هيموتني يبووويه ، ميتا نرتاح
يا ربِّـ . بي ؟!
وذات ليلةٍ تسلقت إلي مرقدها ، وقلت في ضراعة :
- حجي لي ياعمة أمانة !
وربما لنفاذ رصيدها من الحكايات ، أو ربما لتتفادي مغاراتها التي تضلل الذهن . ولقد ضبطت الأحداث ، والأمكنة ، والأزمنة تتغير كثيراً ، ربما كان الألم السري يستقطب إدراكها ووعيها .
قالت وهي تربت علي ظهري ، بصوت منغم :
مقطف رقيق رقيق ، والكلبة تحلق فـ الطريق ، والكلبة عايزة البتاوة ، والبتاوة فـ عين الفرن ، والفرن عايزة المحساس ، والمحساس عند النجار ، والنجار عايز البيضة ، والبيضة فـ ضهر الفروجة ، والفروجة عايزة الغلاية ، والغلاية فـ الجرون ، يروح يجيبها محمد بسبع قرون !
ما هذه المتاهة السائلة التي لم ترمم رغبتي في السفر البعيد ، بل لم يتحرك لها ذهني ملليمترات خارج بيتنا ؟
ومن هو محمد الذي بسبع قرون ؟ .. لم أفهم علي أي حال .
حاولت مجدداً ترميم الليلة ، وقلت وأنا يملأني الحقد عليها :
- حجي لي حجيوة تانية يا عمة ! ..
قالت وهي تربت مجدداً علي ظهري بصوت منغم :
- مقطف رقيق رقيق ، والكلبة تحلِّـ ..
قاطعتها بصوت حملته كلَّ ضيقي وكلَّ نفوري :
- مش الحجيوة دي ، حجيوة "طيزان ومليحة" !
كان تصرفاً غبياً ، فقد أضأتني ، دون أن أقصد ، فريسةً ، لوقت الحاجة ، لسخريتها التي تقطع بها مرضها ، وهيأت لها ذريعةً لمضايقتي .
كانت رغبتها في إضحاك الجميع عليَّ لا تنتهي ، خاصة في وجود أبي ، كانت فيما بعد تبادرني في أي وقت قائلةً وهي تحمل في جيب وجهها غابة من وجوه الأطفال :
- محمد ، نحجي لك ؟
وأصيح ، بعد أن أسرف الطقس في التكرار ، بصوت محتقن بالرفض :
- لااااااه !
مع ذلك ، وبرغم نفيي العصبيِّ الرغبة في سماع حكاياها ، أو بفضله بالتأكيد ، تستأنف وعلي وجهها فائض من الضحكات الحقيقية :
– مقطف رقيق رقيق .....
ويضحكون ، وأبكي ، ويحتد إيقاع ضحكاتهم ، فأبتعد عن الحيز الممكن لأي حماقةٍ موجعةٍ من أبي ، وأقول مكايداً :
- يا أم صليل !
تزداد مساحات الضحك اتساعاً .
للذهب هذه المرأة ، لا شك أن موقدنا العائليَّ أحرز بموتها أكبر خسائره علي الإطلاق ، لقد كانت القامة الطويلة ، والوحيدة ، التي تستطيع أن ترجَّ نزوات أبي فتتساقط من ذهنه قبل تفجيرها تماماً .
كان قد مضي علي رحيلها عقدٌ وبعض العقد حين عدت في إجازةٍ من أسيوط ، ذات ليلةٍ يبدو أنها كانت خالية من الأحداث أيضاً ، فلقد حطَّ أخي بهاء ، الذي كان يطارد عامه السابع في ذلك الوقت ، بقرب تعبي ، كنت أعرف أنه يحبُّ حكاياي ، ربما لأني ، بفضل غابة من التجارب السابقة ، تجسست خلالها علي رغباته ، كنت أستطيع إبهاره تماماً ، وكنت أحني رؤوس الكلمات لكي يستطيع ذهنه أن يمرَّ ببساطة تحت أقواسها .
– حجي لي !
لا أدري ما الذي دفعني في ذاك الوقت إلي الرغبة في تقييم طفولتي ، ربما متاعبي ، وربما كان شكي في رجاحة عقلي تحت ضغط من شكوك الآخرين ، تعقيباً علي رفضي الذوبان في تسريحة القطيع المرتبكة ، ربت علي ظهره وأنا أقول بصوت منغم :
مقطف رقيق رقيق ، والكلبة تحلق فـ الطريق ، والكلبة عايزة البتاوة ، والبتاوة فـ عين الفرن ، والفرن عايزة المحساس ، والمحساس عند النجار ، والنجار عايز البيضة ، والبيضة فـ ضهر الفروجة ، والفروجة عايزة الغلاية ، والغلاية فـ الجرون ، يروح يجيبها بهاء بسبع قرون .
لم تكن لديَّ أدني فكرةٍ عن أثرها في نفسه حتي قال في ضيق :
- حجي لي حجيوة عصفورة وقمرية !
أغرتني هالة التوتُّر التي سوَّرت وجهه فجأة ، أن أربت مجدداً علي ظهره ، وأقول بصوتٍ منغم :
مقطف رقيق رقيق ، والكلبة تحلق فـ الطريق ، والكلبة عايزة البتاوة ، والبتاوة فـ عين الفرن ...
قبل أن أتمَّها ، انزلق بهاء من فوق السرير ، وخرج في منتصف دهشتي تماماً ، ثمَّ سمعت بعد قليل صوت ارتطام صغير بالباب ، لقد أصاب الباب حجرٌ صغير ، نهضت أستطلع الأمر ، وتفاديت حجراً كان في الطريق إلي الباب ، ثم .. أضحكني كثيراً أن أجدَ بهاء ، قد ملأ حجره بالحجارة ، ووجد التعبير عن غضبه في استهداف الباب ، أو استهدف أوَّل الأمر انتباهي إلي خطأي بجلد الباب ، وعندما رأي ضحكاتي ، تفاقم غضبه ، ثم استهدفني تحديداً وبعنايةٍ شديدة ، حتي أصابني حجرٌ أمطر في أوجاعي مباشرة .
أدركتُ أن طفولتي كانت تسير في طريقها الصحيح .
(7)
كان أبي عنيداً لا يقبلُ النقد ، ولا يرضي بأيِّ مقاربةٍ لا ترضيه . وأتذكَّر أنني ، وإخوتي ، كنا دائمي الشجار معه حول مائدة الأعوام الأخيرة من حياته .
ليس شجاراً بالمعني الشهير للكلمة ، وإنما هو عتابٌ جارحٌ لا أكثر ، يواجه إلغائه بمجرد أن تتسع المساحات البيضاء من عينيه المنوطتين .
تخرج العينان عن إطارهما أحياناً وترميان بالشرر ، يتغلغل الذعرُ في شغافنا بتصرفات مرتفعة ، ونخبئ ذعرنا بمأمن خلف صمتنا أحياناً ، وخلف انسحابنا من هامش الحلبة العائلية في أغلب الأحيان .
نستعيد بعد قليل صلابة أطرافنا ، ونتحالف علي ترقيع فشلنا باعتزاله ، لا نكلمه ، ولا نشاركه الطعام ، ثمَّ .. لا يكترث لنا .
له أساليب عقابه أيضاً ! .
في مثل تلك الأيام كان يكايدنا ، ويعمل بكثافة شديدة ، علي انهيار حلفنا الاعتباطي ، كان يستعين بما أكسبه التجسس علي رغبات أطفال الحلف بمرور الوقت ، ويشتري بإفراطٍ كلَّ ألوان الطعام التي يعرف أنها اختياراتهم الأولي ، ودرأً لانهيار الحلف ، كنا ننخرط في المنافسة إلي مديً أبعد .
يالألاعيب الصبيان !
وفي مثل تلك الأيام ، كان إسلام يزداد ، بمقارنةٍ بسيطةٍ بين ألوان الطعام علي المائدتين ، إحساساً بالائتلاف الذي ينبغي له أن ينضم إليه ، ولذلك كان بهاء يضربه في حسدٍ واضح ٍ وهو يقول له :
- إنتا مع اللي طابخ ، يا بطيني !
وفي مثل تلك الأيام ، كانت جدتي تنحاز إلي أبي علي الدوام ، وفي بعض محاولاتها للتهدئة التي تتواكب عادة مع وجود إسلام علي مائدتنا ، كانت يدها تتسلل أحياناً إلي الآنية بلا خجل ، وبوضوح أكثر مما ينبغي ، وكنا مرغمين علي معاملة أعوامها السبعين وبعض العقد ، معاملة إسلام !
وفي مثل تلك الأيام كانت أعباء أمي ، الواقفة علي الدوام ، في منتصف المسافة بين الفريقين ، تتضخم بوضوح ، ويصبح ذهنها مشتتاً بين خدمة أكثر من مائدة ، تبكي أحياناً ، وبرغم هذا ، لم تسلم من الرجم بالتواطؤ من الفريقين والنقمة .
هي حزمةٌ من الآثام قد التصقت ، بلا مشروعية ، بيومياتنا ،
وهي حزمة من الآثام قد التصقت ، بلا مشروعيةٍ ، بيومياتنا ، تعقيباً علي تعاطي أبي الأفيون بشهيةٍ تتضاعف وتيرتها أسبوعياً .
وتعقيباً علي تعاطي ذلك المتطلب ورحيق الحنظل كانت الطريق إلي بيتنا تهبط تدريجياً ، وتنهار عضلاتها تدريجياً ، حتي كان في النهاية ، يلزمنا كلِّ يوم بذل المزيد من الجهد للخروج إلي ضوء الشارع الأول ، وذلك الهبوط التصاعديُّ ، جعلنا نشعر أننا نسكن قبواً لا بيتاً ، لكن القبو انخرط في سرِّنا .
وانخرط في سرِّنا العمُّ عبدالباسط أيضاً ، لم يتمكن من الاطلاع علي أعصاب قبونا العارية سواه ، ولم يكن أحدٌ سواه يستطيع أن يقتحم قبونا اقتحاماً ، حتي أصحاب الدم الأكثر قرباً ، كان الرجل يلمس ذلك العمقَ الأليف لحبنا الهائل السعة له ، وكنا نستطيعُ أن نثق في حبه لنا تماماً ، وكان إلي مدي بعيد الوردة الطليعية في أحواض صباحاتنا ، اليتيمة أيضاً ، إلي مدي أبعد ، ويجدنا غالباً في انتظاره ، ويصبح صباحنا فاكهةً للأغاني ، وهذا المساء ذهب .
وجد أبي ذات صباح ٍ شديد العصافير ، عاكفاً علي قراءة سورة الواقعة ، لدرأ الفقر كما تقول الأسطورة ، فاهتزَّ جسدُه بفعل استحواذ الضحكات ، وكأنما كان يركب جملاً مسرعاً ، وضحكنا مبكراً ، وصاح هو من بين ضحكاته :
- والله ما تقرا ألف واقعة ، بردا الفقر وراك وراك !
احتدَّ إيقاع ضحكاتنا ، وتقاطعت الأحرف في حلق أبي ، وفشل في السيطرة علي ضحكاته ، وتوقف عن القراءة ، وأطلق العنان لضحكاته الحرة ، وهوينحِّي المصحف جانبا ، واستأنف العم عبد الباسط :
- عايز تغني وتسيِّبني ، لا يا حبيبي ، أبحمد – كنية الفقر في الدومة – ، ولد أصول ، مش عيسيِّب صحابه واصل !
استعاد الضحك عنفوانه من جديد . وعيوننا دموعها .
لكن برغم شجارنا معه ، وأقسم علي هذا بالعطر ، كنا نتألم كثيراً عندما كنا نراه ، يتنفس كحيوان ضاق به المكان ، لفشله في الحصول علي الأفيون ،إن كان لنقصه في السوق ، أو لعدم وفرة المال اللازم لشرائه ، وعندما نراه يعدَّ البنَّ المرَّ ليسكت به حاجته الملحة للأفيون أيضاً .
وأتذكر أنَّ أمي خلف نوبةٍ من نوبات عتاب الأفيون تلك ، انتحت بي بحيادها القاسي جانباً ، وهمست لي :
- امبارح قال لي أنه عيتسيَّر بالقوة ، وأنه خايف يكون عنده زي اللي كان عند المرحوم عصام !
اتهمتها في همس عصبيٍّ بالتواطؤ أو السذاجة ، واحتدَّ إيقاع عصبية الهمس حتي تحول فائضٌ منه إلي صوتٍ مرتفع وأنا أقول :
- كل رجالة الشقِّ الغربي ، كل رجالة الدومة ، خايفين يكون عندهم زي اللي كان عند المرحوم عصام !
كان الخوف في تلك الأيام من مصير يتَّحد بمصير عصام ، يكاد يكون رياضة الدوميين المحلية ، علي أنه كان هائل السعة إلي درجة العدوي ، وكنت أستطيع أن ألتقط رائحة الأدرينالين في كلِّ مكان .
برغم هذا ، وربما بفضله ، انتبهت عيناي متأخرتين ، إلي نحافة أبي الطارئة .
(8)
لقد اقترفتُ سلة من الساعات مع بودلير ورائعته الجنة الزائفة ، والشرف هنا يتنحي جانباً ، فإنَّ بودلير ، بالنسبة للإنسانية ، ممر صادقٌ نحو اكتشاف الذات ، ضرورة أيضا لابدَّ من الانزلاق في شرخ جمالها ، وعسرها أيضاً ، فقارب ذهني مفاهيم كنت أهملها فيما سبق ، وانحسرت أرعي يقيناً .
كان أبي يعيش بيننا علي الحافة ، لم تتسع أصصُ عالمنا الكريه لأن ترتجل له جذراً ، وإن ارتجلت له أطرافاً بفعل استحواذ تسع من حماقاته المؤدية .
لكن زهرة الأفيون الرقيقة ، استطاعت أن ترتجل له عالماً خاصاً ، يستطيع فيه أن يرتِّبَ مشاعره وفقاً لمشيئته الخاصة ، وبعيداً عن رقابة الآخرين ، وهذا هو الأهم ، فقط يلزمه الصعود علي درجاتها .
كان أبي كالمسيح إذن ، عالمه خارج هذا العالم تماماً .
الفارق الرحبُ هو أنَّ أبي لم يغلف عالمه السلبيَّ بالرمز ، لتطير طرقُ الرمز ، ويتحقق وجوده ، ويمتدّ ، والفارق الوحيد هو أنَّ حوارييِّ أبي كانوا قد رتَّبوا قناعاتهم علي التعايش مع تراث الرمل تماماً ، أو اعتادوا ، مهما ادعوا ، ألا يقروا بوجود شئٍّ غير الذي يرون ويلمسون ! .
محمد رفعت الدومي
مشاهدة ملفه الشخصي
إرسال رسالة خاصة إلى محمد رفعت الدومي
البحث عن المشاركات التي كتبها محمد رفعت الدومي