|
|
منابرٌ فوق السحاب نسمو هنا .. إلى أعالي الفكر وَالحوار والمقال الأدبي. |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
|
#1
|
||||
|
||||
بيني و بين الدكتور نزار الريان
بيني و بين الدكتور نزار الريان الدكتور الراحل العلامة نزار الريان ، شخصٌ نال عندي منزلةً رفيعة ، و آثرْتُه بحبٍّ كبيرٍ ، لا لشيءٍ سِوى أنني رأيتُ رجلاً جمع الله فيه من خصال الكمال ما تفرَّقَ في الكثيرين ، لم أعرفه عن قربٍ ، و لكن أحاديثه تنبيءُ عنه و تُخبرُ عن كُنه حقائقه ، رجلاً عالماً ، أضاف إلى علمه حِلماً و عقلاً ، و قليلٌ من العلماءِ من هو كذلك . كانت البداية أن أضافني عنده في برنامج المحادثة " الماسنجر " ، إضافةٌ من رجلٍ لا يعرف عني شيئاً ، سوى ذكر بلغه ، و لا أعرف عنه شيئاً سوى ذكر بلغني ، و لكن ما إن كان التواصلُ حتى بدا بيننا حديث الودِّ و الإلْفِ ، و لا زلتُ أعجبُ من ذاك التواضع الكبير الذي جعله يُضيف شخصاً ليس شيئاً ، حتى الساعةَ أتعجبُ منه كلما مرَّ شريط ذكريات الحديثِ معه . متمتعٌ بهمةٍ عاليةٍ ، رأيتها في حديثي معه في برنامج المحادثة فقد كان يذكرُ لكلامه ما يُوثقه من نقلٍ عن سابقٍ ، و لا يطمئن حتى يُتبعَ ذلك بالعزوِ للمصدرِ الذي نقلَ منه ، و مجالس المذاكرات يُتساهَلُ فيها ، و لكنه جادٌّ و الجادُّ لا يرنو نحْوَ التساهُلِ في حالٍ . *** " استفدتُ في السجنِ الفِقْهَيْن ؛ فقه اللغةِ ، و فقهِ الأحناف ، فقد أفاداني كثيراً في العلم " نزار الريان كنتُ معه في كلام عن اللغةِ ، و مدى أهمية توظيفها و استعمالها في أحاديثنا ، لم نكن جميعاً نقصد الإعرابَ للكلامِ و لا صرفَه ، بل كنا نقصدُ استعمال ألفاظ العربيةِ و التعمُّقِ في أسرارها ، ليعرف الناسُ ، و طلاب العلوم آكد ، مدى استيعاب اللغةِ كثيراً مما يريدون ، حكى لي قصته في السجنِ و أنه استفاد منها أن قرأ في كتب فقه اللغة كثيراً مما أطلعته قراءته على كنزٍ كان عنه غافلاً ، و أنها عرَّفته كثيراً من أسرارها و التي تعينه على فهم الشريعة ، قال : قد استفدتُ ذلك جليَّا في شرحي لـ " مسلم " ، ثم سردَ لي ما كتبَه عن كلمة " السنة " و تطورها الدلالي و الاصطلاحي ، ثم قال : أين سأحكي ذلك لولا تلك القراءة . من فقه اللغةِ اللساني إلى الفقه الشرعي المتمكن في إعمالِ الرأي و توظيفِ العقلِ في فهم النصوص كان انتقاله في القراءة في كتب الأحناف ، فأكسبته تلك القراءة فهماً للنصوص أبعدَ مما كان يعتقد ، و أن الأحناف لهم فضل كبيرٌ على فقهاء الشريعة ، فقد نظروا إلى أبعادٍ كثيرة ، و إن كان لا يوافقهم . هذا الحالُ من رجلٍ يقبَع في السجن محصوراً مأسوراً ، مُثاباً مأجوراً ، يغتنم تلك الحالة بهذه التعمقات الفقهية ، لهي حالة ليست إلا صورة نادرة ، كان بإمكانه أن يُريح عقلَه قليلاً بقراءة مُلَح العلم و يستغنيَ عن عُقَدِه ، و لكن الهمة معقودة في قائمة عرْش الكمالِ فأنَّى أن تُفَكَّ . " و أظلمت المدينة " .. في محادثةٍ من تلك المحادثات الطاهرة معه ، قبِلَه الله ، تطرقنا لشيءٍ من الحديثِ عن السيرة النبوية ، و أن السيرة لم تُصَغْ اليومَ كما هي متناسبة مع الزمان ، و الذي ينبغي لمن ملك قلماً أن يُسيلَ حبرَه لكشف أسرار السيرة النبوية البانيةِ لحضارة الإنسانِ اليوم ، فإنَّ السيرة معطاءة ولودٌ ، و تتجددُ و لا تَخلق ، ثم جاءَ ذكرُ كتابه " و أظلمت المدينة " ، فأرسلَه إليَّ قبل أن يُطبَع طبعته الأخيرة في " دار المنهاج " ، و قال : هي لك خاصةٌ من بين الناس ، فلا تُخرجه لأحد حتى يُطبَع ، و بعد زمنٍ أرسلَ غلافَ الكتابِ . أخبرتُه بأنَّ الكتابَ موطنُ دمعِ مُحبٍّ ليس إلا ، و إنك لممنوحٌ مقاماً به . قال : كتبته معتمداً على ما صحَّ من خبرٍ ، جامعاً وعظاً و علماً ، سارداً قصةً عظيمة ، أتمنى أن أكون مجوِّداً عملي . طريقته في الجمع هذي مفيدة في التنويع الطرْحي للعلومِ ، و لعله أدرك ذلك ففعل ، فالكتاب سيُقرأ من عدة أطيافٍ و عدةِ أصنافٍ ، فبالتنويعِ توفيرٌ لكلٍّ ما يريدُ ، و إيجادٌ للبُغية ، و هذه من فطائن اللبيب . ذكرتُ له قِصةَ ما كتبت من مقامةٍ في السيرة ، و لا أدري أأرسلتها له أم لا ، فكلانا كان ذاهباً على أن للسيرة حضورٌ مهمٌّ اليومَ في صورٍ لا تحصيها الأعداد ، و لكن لا يعرفُ صورها إلا من عرفَ أبعادها . " رضي الله عنكم " هذه الكلمة قد تكون شعاراً له في حديثه ، فما بين الكلماتِ يسوقها ، و شبيهاتٌ لها ، تنبئك عن رأفته و رقته ، لم أكد أسمعها من أحد ، لذلك كان متميزاً ، و لعلَّها طبعه العام مع الناس كلهم ، فكمال أدبه لا يرضى بالتخصيص إلا بموجبٍ . كتب إليَّ بقصةٍ ظريفة جميلة بينه و بين الشهيد عبد الله عزام ، قبلهما الله ، قال : في ساقي جرح قديم جدا، كنت جالسا مع أستاذي عبد الله عزام رحمه الله، فرأيت في نفس الساق منه جرحا كأنه هو ، قلت له: ما هذا ؟ ونظر إلى جرحي، فقال: الأرواح جنود مجنده . *** " كتبت في الأيام الماضية مقدمة كتاب الأنساب ضمنتها " الأنساب أصولها وقواعدها وفوائدها " نزار الريان كتب ذلك لي في 10/11/1429 ولا أعلم شيئاً ، رجلٌ معطاءٌ ، لا ينتهي عطاؤه ، و عطاؤه شهيدُ مقاصدِ و غاياتٍ نبيلة ، و الشهيد حيٌّ . في ذاك التاريخ ذكر أمنية الحجِّ ، و أخبرَ بشوقِ اللقاءِ ، و لعلَّه قيَّدَه ، بعد قيدِ التيسير ، كما قال ، نصاً : هذا إن خرجت غزة . *** "نويت في رباطي القادم بعد ليال، أن يكون أجره لك إن شاء الله تعالى، فتكون نيتي من أول تلك الليلة: رباط هذه الليلة هبة لأخي في الله ثم أذكرك إن شاء الله تعالى " نزار الريان الاثنين ، 12/11/1429 هذا تاريخ آخرِ محادثةٍ كانت بيننا ، كانت محادثة ممتعة ملأها بتميُّزٍ في الفوائد العلمية ، كعادتها و أمْيَز ، افتتحها بكل أدبٍ وخُلُقٍ فذٍّ بتلك النية أعلاه . هذا شيءٌ مما كان بيني و بين هذا الراحل الكبير ، و أعرف تقصيري ، و لكن الذاكرة لم تُسْعف تعبيراً أكثر من ذا ، و إنه لفي الذكر باقٍ ، و إنَّ ما أذكره مما جرى معه من حديثٍ ممتعٍ ، و رؤية لوجهه المنير ، ليجعلني في شكٍّ من كونه رحلَ ، و إنني لأحتسب بقاءَه ، و أرجو في الآخرة لقاءَه. نشر في : صحيفة سبق / رابط المقال |
05/01/2009, 09:47 PM | #2 | ||
شاعرة الأوركيد
|
|
||
مواقع النشر (المفضلة) |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|