***
أخذتـني عائشة لـحجرةٍ لها , تُكفكِفُ دموعي و دموعها
و تمسحُ على رأسي و تناديني بلُطف : ( أمل .. أمـــل ) !
نظرتُـها بــعيْـنيَّ البريـئـتَـيْـن , فـــابتـسَـمَـتْ
و سُـبحانَ مَن يُضاعِف الجمال في وجهها إذا ابـتَـسَـمَـتْ !
شعرتُ بـارتِياحٍ بعدَ نظرتي لها , ثمَّ انفجرتُ ثانيةً أبكي
و ارتمـيْــتُ بــحضنها
فـــضمَّــتني بقـوَّة , و ضـمَّـيْــتها
فـاطمأننتُ بحنانها حينَ ضمَّتني , و أنِسـتُ بــصوْتها و هيَ تُردِّد : ( أمل ) "
يـــــــــــــــــــــــااااااه
مــا أجمل تلكَ اللَّــحظات و الله !
رغم خوفي الشديد و حيرتني , و جهلي لكلِّ ما يحصل
إلاَّ أنَّ ضـمَّـةٌ في حِجر عائشة أنستني كلّ ألم
و كأنـّـي لم أذُق في حياتي غصَّة حُزنٍ قطّ .
ما أروعَ عائشة !
كانتْ أهلي يومَ لا أهل لي
و وطني بعد الصَّحراءِ و الخيمة
و أمنــي يومَ أنْ غابَ الأمــان .
عِشتُ معها في غُرفتها تُطعِمُني ألذّ و أشهى الطَّعام , و تكسوني أفخر الثياب
و أزاحَتْ عنّـي غُبار الأميَّـة حينَ علَّمتني بــفِـطنةٍ و ذكاءْ
فــأنا أمل
و هِيَ عائشة
و ربّي اللهُ في السَّـماء
و رسولي مُحمَّد ـ صلَّى الله عليهِ و سلَّم ـ
و ديني الإسلام
أحفظُ مِن القرآن الكريمِ قِصار السُّوَر , و أطمحُ للمَزيد
بدَأتُ أكتبُ بعض الحروف و أقرأ قِراءةً بدائـيَّـة
و لديَّ طموحٌ بأنْ أقرأ و أكتب مثل عائشة , فلا بُدَّ أن يكون عندي أملٌ كـــ" اسمي"
فالأملُ كما علَّمتني عائشة هُوَ ( أنْ أكون مُتفائلة طموحة فالصَّعب سهل
و المُستحيل مُمكِن , و كل عقبة ـ بحول الله و قوَّته ـ تتحوَّل إلى دافع )
***
كبُـرتُ و بلغتُ العاشِرَة مِن عمري
تغذّى عقلي بـعلمٍ كثيـر , و خيْـرٍ وفيــر
فِــقْــتُ أصحابي في الجمعيَّة حين توكَّلتُ على ربي , و ساعدتني عائشة
و لم أستحقِر نفسي بينـهم
فــحتَّى لو كانَ تَـعرُّفـي على الحياة مُتأخِّـر , إلاَّ أنني " إنسانٌ " مِثلهم
لا ينقصني شيءٌ عنهم , فكما أنني يتيمة فـهُم مثلي أيتام .. نعيشُ معاً في الدار
و اليُـتمُ ليسَ بـعيبٍ أبدا
فـرسولنا ـ صلَّى الله عليه و سلَّم ـ يتيم , و عائشة ـ مُربِّـيَـتي ـ يتيمةٌ أيضاً
أبداً لا ينقصني شيء و لا زِلتُ في بداية الطَّريق و سأحقٌّق ما وعدتهُ عائشة ـ بإذن الله ـ
و بينما أنا أتأمَّـل كُلَّ هذا التغـيُّـر الذي طرأ لحياتي
و أتفكُّر في كيفَ كُنتُ ؟ و كيفَ صِـرت ؟
زارني في خيالي مَشهدُ ذبحِ العجوز .. فــتذكّرتها ! و تذكَّرتُ حياتي تِلك
فــسبحتُ في بحر الخيال أتذكَّـرُ السنين الرَّاحِــلة ..
يا عائشة أينَ كنتُ و أين كُنتِ قبل أنْ نكون معاً هُنا في الـدَّار ؟
أريدُ الجواب .. فهلاَّ أجبـتِــني ؟
صغيرتي أمل و هل مِن خيرٍ ســتجنـينَ إذا أجبتُ على السُّؤال ؟!
بعضُ المَـستـور أفضل مِن أنْ نُـزيل عنهُ السِّـتار , و بعضُ الخفايا يا أمل إنْ تُـبدَ لنا تسؤنا
جوابي لنْ يزيد في عُمُركِ و تقدُّمك , و تفكيرنا في الماضي يا حبيبتي ســيُعرقل المَسير
تفـحَّـصي أمانيكِ يا صغيرتي و جِدِّي إليها السَـيْـر .
و لكِن يا عائشة أليسَ مِن حقّي أن أعرف أهلي و موْطِني ؟
مَن أمي ؟ و مَن أبي ؟ و أينَ هُمُ اليوم ؟
أليسَ جوابُـكِ ســيزيدُ مِن عِلمي و معرِفتي لِـنفسي ؟
أرجوكِ يا عائشة أجيبيني .. أين هُم عني ؟ و لماذا تركوني عِندَكُم في الدَّار ؟
لماذا أنا لستُ كباقي الأطفالِ بأهلٍ و وَطَنْ , و مالٍ و سَكَــنْ ؟
كبرتُ يا عائشة و اغـتـنـيتُ بفضلِ ربّي إلاَّ تساؤلاتي فقيرة , و اللهُ يجزي المُتصدِّقين
فؤادي مُتعطِّشٌ للجواب , فهلاَّ سـقـيـتـيـه ؟
صدِّقيني يا صغيرتي ما كُنتُ فاعلةً ما يسوؤكِ قط , و لا مانِعتُكِ مِن ما يُرضيك
طمْـئـني القلبَ يا قلبي , و قرِّي عيـنـا فـــلَسْـتِ بــغريبة
أنتِ في وطنكِ و أناْ بعضُ أهلك
و لن يُضيُّعنا الله فـليُنصرَنَّنا و لو بعد حين
يا أمــل
أبوكِ عبد الله رجلٌ طيِّـب يُحبُّه النَّاس و يُقدِّرونه
كم داوى مِن مريض , و خفَّـف مِن جراح .
و أمُّكِ هناءْ سَيِّدةٌ عظيمة مِن خيرة النساء
محبوبةٌ ثريَّـة , جميلةٌ غـنـيَّــة .
و إخوتُكِ صالحٌ , و أيمنَ , و جَـنـَّـة
ذُريَّةً صالحة كانوا لوالِديْكِ عَوْناً و سَـنداً في الدينِ و الدُّنيا و العُسرِ و اليُسر
أمّـا مكانُهُمُ الآن
فــجميعهُم ـ بإذنِ الله ـ في الجنَّة يـتـنـعَّـمـونَ بينَ حورِها و أنهارِها
فــقد ماتوا يا أمل
أجسادُهُم في التُّـراب , و أرواحُهُم في علمِ الله .
لا أستطيع أنْ أصف لكُم ما دَبَّ في جسدي و أناْ أسمعُ مِنْ عائشة الجواب
لم أُصدِّق أنني كـغيري لي أمُّ و أبٌ و إخوة !
و كأنَّ كلمتها : ( مـاتـوا ) صاعقة على قلبي
صرختُ في وجهها أبكي
لااااااا و لماذا لم أعلم عن هذا ؟
أينَ أنا عنهم يوم وفاتهم ؟ و لِمَ لمْ أمُتْ معهم و نرحل سويَّاً إلى الجنَّة ؟
مَسَكتْـني بـيدي و قالت :
( يا أمل استغفري اللهَ ثمَّ توبي إليه , كيفَ لِــفتاةٍ مثـلُـكِ أنْ تتمنَّى المَوت ؟!
هل تُدرِكين قدر ما سـيفقدهُ الدَّار لو لم تكوني فيه ؟
يا أمل .. كوني صابرةً قويَّـة , إيَّـاكِ و الجَزَع فإنَّهُ خُلُقُ الضُّعَفاء
هذا قضاءُ اللهِ يا صغيرتي و ما لنا مِن محيص
ثِقي بأنَّ اللهَ يُريدُ لكِ الخير و لن يُضيَّعكِ
لكن أثبـتي لنا بأنَّـكِ مؤمنةُ قويَّـة )
لمْ أنسى كلماتُها هذه
فـقد كانت ترنُّ في قلبي قبل أذني
كانتْ توصيني بالصَّـبرِ و الثَّبات , تَلمعُ عيناها حُبَّاً و شفقةً عليّ
كُنتُ أُبصِرُ خلفها كثيرُ كلمات و كثيرُ أسرار
جوابها لم يكُن شفاء لِـداء تعـجُّـبـاتي , بل فضولي زاد , و تساؤلي تكاثرَ و ازداد
صَــمَــتُّ حينها و حديثٌ في داخلي ذا ضجيج !
شكرتُها ثمّ ذهبتُ إلى سريري لأنام حيثُ كُنَّا في مُنتصف اللَّيل
جَـلَـسَـتْ في مكانِها برهةً ثمّ ذهَبَتْ لـسريرها
كنتُ أُراقبها مِن طرفِ الغطاء , أمسحُ دموعي و أحبس البُكاء
و أتصارع مع جيش التَّـفكير المُزعِـج
بدأتُ أتخيّل شكل أبي " عبد الله " يرتدي وشاح الطبيب
أزوره في العيادة فـيترك المرضى لِـيُـقـبِّــلني فأناْ ابنته .
و أما أمي هناء فـامرأةٌ جميــــــــــــــــــــــــلة , تحبّني كثيراً أكثر من حُـبِّـها لإخوتي
تُعلِّـمـني , و تُسرِّح شعري , و تُغنّي لي بـصوتٍ عذبٍ تدعو ليَ الـرُّقاد .
أما إخوتي فــيُحبُّونني كثيراً و أحبُّهم , نتبادل الألعاب في البيتِ و الشَّارع
" جنَّة " تنامُ معي في غرفتي , و " صالح " و " أيمن " في الغرفة المُجاورة
بيتنا مِن أجمل البيوت
فيهِ حديقةٌ غنّـاءْ , مليئةٌ بالزُّهور الحمراءْ
تلعبُ بينها الفراشات , و تغنّـي فيها الطُّيور على جذعٍ في طرفِ الحديقة .
عِشتُ مع أهلي في خيالي تلك اللحظات , ثمَّ ما إنْ تَـثَـبـَّــتُّ أنّهُ خيال , و وُجودهُم قد زال
و أنّهُمُ الآنَ سويَّةً في الجنَّة يلعبونَ بـدوني في السَّهلِ و التِلال !
انفجرتُ على سريري أبكي
و يـــا طــووووووول صبري
يا أيُّـها الخيال
لا تَمضِ للزَّوال
أُريدهُمْ .. أُحبُّهُمْ
و خالِق الجِبال
لا تحرمَـنَّ قلبي .. مِن أهليَ و حُبِّي
سُكناهُــمُ في خاطِري
نِسيانُهُمْ مُحال
***
فـتحتُ عينيَّ و إذا بـعائشة جالسة معيَ على سريري تتأمَّلُ المَنظر
استغـشـيتُ غطائي و أجهشتُ بالبُكاءْ
رَفَـــعَـــتْ عنّي الغِطاء ترتجف عيناها بالدُّموع
أجلَـــسَــتْني و ضمَّـــتني
صرخْـتُ حينها أبكي و هِيَ تمسحُ على رأسي تُطمئنني و تطلبني الصَّبر
انتـابَـني شعورٌ غريب !
أُحسُّ بـخوفٍ شــديد و لا أعلمُ لِماذا ؟!
غفَيْــتُ في حِجرها بعد بُكاءٍ طويلٍ زارني و إيَّاها على سريري
نمتُ نومةً هانئة بعد راحة البُكاء خلا نوميَ مِن الأحلام و الرُّؤى ..
أذّنَ الفجــرُ في مدينتنا
أيقظـتــنـي عائشة فــاستيـقـظْـتُ مِن أوَّل ما نطَقَتْ اسمي
توضَّـأتُ بــالماء , و لَبستُ حِجابي , و استقبلتُ الكعبةَ المُشرَّفة
فـــنطَقَ فؤادي قبل فمي : ( اللهُ أكـــبـــر )
رتَّــلتُ الفاتحة و أتبعتُها بالضُّحى
بسم الله الرحمن الرحيم ( و الضُّحَى * و الليْلِ إذا سَجَى * ما وَدَّعكَ ربُّكَ و ما قلى * و للآخرة خيرٌ
لكَ مِنَ الأولى * و لسوفَ يُعْطيكَ رَبُّكَ فـترضى * ألم يجدكَ يتيماً فآوى *
و وجدَكَ ضالاًّ فـهَدَى * و وجدَكَ عائلاً فـأغنى * فأمّا اليتيمَ فلا تقهَر * و أمّا
السائلَ فلا تنهر * و أمّ بـنعمةِ ربِّكَ فـحَدِّث )
كانتِ الآياتُ تدكُّ عروشَ قلبيَ دكَّـا , فــغدا خاشعاً مُتصدِّعاً مِن خشية الله
خَرَّيْـتُ على سُجَّادتي ساجِدَة
فــسَبَّــحـتُ ربي و نزَّهتهُ , ثمَّ دعوتُهُ بـقلبٍ خاشع , و يدٍ فقيرة
يا ربّ .. يا مَن على كُلِّ شيءٍ قدير
ربّي .. يا مَن لا يُعجزهُ شيء في الأرض و لا في السَّماء
يا ربّ إني أشكو إليكَ ضَعفي و خوفي و حيرتي
يا ربّ فـــقوِّني بك , فـلا حولَ و لا قُوَّةَ إلاّ بك
يا ربِّ بدِّل الخوفَ بأمان .. و الحيرة إلى استقرار
ربّي .. يا مَن يُجيب المُضطر إذا دعاهُ و يكشف السوء
قد مسَّني الضُّرّ يا ربّي و أنا أمةٌ ضعيفةٌ آمنتُ بكَ سُبحانك
و أنتَ الملك القويّ الرَّحيم
و لكَ الحمدُ على كُلّ نعمةٍ أنعمتَ بها عليّ
و صلِّ اللهم على محمدٍ و على آلهِ و سلِّم
إنّا لله و إنّا إليهِ راجعون .
***
|